وأما الصواب من القول في تأويله، فأن يقال: إن الله جل ثناؤه، أخبر أن الملائكة نادته، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الملائكة دون الواحد وجبريل واحد، فلن يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب، دون الأقل ما وجد إلى ذلك سبيل، ولم يضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفي من الكلام والمعاني.
وبما قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل العلم، منهم قتادة والربيع بن أنس وعكرمة ومجاهد وجماعة غيرهم. وقد ذكرنا ما قالوا من ذلك فيما مضى.
القول في تأويل قوله تعالى: * (وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى) *.
وتأويل قوله * (وهو قائم) *: فنادته الملائكة في حال قيامه مصليا. فقوله: * (وهو قائم) * خبر عن وقت نداء الملائكة زكريا، وقوله: * (يصلي) * في موضع نصب على الحال من القيام، وهو رفع بالياء. وأما المحراب: فقد بينا معناه، وأنه مقدم المسجد.
واختلفت القراء في قراءة قوله: * (أن الله يبشرك) *، فقرأته عامة القراء: * (أن الله) * بفتح الألف من أن بوقوع النداء عليها بمعنى فنادته الملائكة بذلك. وقرأه بعض قراء أهل الكوفة: إن الله يبشرك بكسر الألف بمعنى: قالت الملائكة: إن الله يبشرك، لان النداء قول، وذكروا أنها في قراءة عبد الله: فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب يا زكريا إن الله يبشرك، قالوا: إذا بطل النداء أن يكون عاملا في قوله: يا زكريا، فباطل أيضا أن يكون عاملا في إن.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا: * (أن الله يبشرك) * بفتح أن بوقوع النداء عليه، بمعنى: فنادته الملائكة بذلك، وليست العلة التي اعتل بها القارئون بكسر إن، من أن عبد الله كان يقرؤها كذلك، وذلك أن عبد الله إن كان قرأ ذلك كذلك، فإنما قرأها بزعمهم.
وقد اعترض بيا زكريا بين إن وبين قوله: فنادته، وإذا اعترض به بينهما، فإن العرب تعمل حينئذ النداء في أن، وتبطله عنها. أما الابطال، فإنه بطل عن العمل في المنادى قبله، فأسلكوا الذي بعده مسلكه في بطول عمله. وأما الأعمال، فلان النداء فعل واقع كسائر الأفعال. وأما قراءتنا فليس نداء زكريا بيا زكريا، معترضا به بين أن وبين قوله: