وبذلك تفكك نظم ألفاظه وتمزق سياق معانيه، ولم يدع صلوات الله عليه الأمر على ذلك فحسب، بل نهى عن كتابته، فقال فيما رواه مسلم وغيره: " لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه. " وقد استجاب أصحابه لهذا النهي فلم يكتبوا عنه غير القرآن، ولم يقف الأمر بهم عند ذلك بل ثبت عنهم أنهم كانوا يرغبون عن رواية الحديث وينهون الناس عنها، ويتشددون فيما يروى لهم منها. وقد كان أبو بكر وعمر لا يقبلان الحديث من الصحابي مهما بلغت منزلته عندهما، إلا إذا جاء عليه بشاهد يشهد معه أنه قد سمعه من النبي، وكان علي يستحلف الصحابي على ما يرويه له رضي الله عنهم جميعا. وكان ذلك في عصر الصحابة فترى ماذا يكون الأمر بعد ذلك؟!
رواية الحديث بالمعنى:
ولما رأى بعض الصحابة أن يرووا للناس من أحاديث النبي، وذلك في المناسبات التي تقتضي روايتها، وقد يكون ذلك بعد مضي سنين طويلة على سماعها، ووجدوا أنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بالحديث على أصل لفظه، كما نطق النبي به، استباحوا لأنفسهم أن يرووا على المعنى، ثم سار على سبيلهم كل من جاء من الرواة بعدهم، فيتلقى المتأخر عن المتقدم ما يرويه عن الرسول بالمعنى ثم يؤديه إلى غيره بما استطاع أن يمسكه ذهنه منه، وهذا أمر معلوم لا يمتري فيه أحد حتى لقد قال وكيع كلمته المشهورة: " إذا لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس " وقال سفيان الثوري: " إن قلت إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني! فإنما هو المعنى ".
وهكذا ظلت الألفاظ تختلف والمعاني تتغير بتغير الرواة. فيهم - كما قال السيوطي: الأعاجم والمولدون وغيرهم ممن ليسوا بعرب ولهجتهم العربية ليست خالصة!
وكان البخاري - وهو شيخ رجال الحديث، وكتابه، كما هو مشهور بين الجمهور - أصح كتاب بعد كتاب الله كما يقولون، يروي على المعنى!
ولقد كان لرواية الحديث بالمعنى - ولا جرم - ضرر كبير على الدين واللغة والأدب، كما ستراه فيما بعد.