وعلى الجملة: فمحلهم قابل للوصف بكل منقبة غراء. أخصها تسميتهم عند أهل العدل " العدول ":
من تلق منهم تقل: لاقيت سيدهم * * مثل النجوم التي يهدي بها الساري وكان السبب الباعث على تحرير هذا الكتاب، وتقرير ما حواه من المعنى الدقيق الذي اطرحت منه القشر وأثبت اللباب: هو أني وقفت على كثير من كتب المتقدمين في الوثائق والشروط، وأتيت على ما فيها من المصطلحات الحكمية، وتأملت المختصر منها والمبسوط، فإذا هي ذات عبارات مؤتلفة ومختلفة، وحالات قوانين أوضاعها يغنيك موصوفها عن الصفة، وفي غضونها من الألفاظ ما تمجه الاسماع لطوله وبسطه. وربما حصل لمتأمله ملل أداه إلى الاخلال بمقصوده المؤلف وشرطه. ورأيت - مع ذلك - أن مصطلح الأولين بالنسبة إلى أفهام المتأخرين لما فيه من التركيب العجيب غريب، ومنه ما هو محتاج إلى التهذيب وتقريب وترتيب.
والمعلوم من طريق المنطوق والمفهوم: أن هذا العلم، وإن كان بحرا لا يصل أحد إلى قراره، ولا يستطيع أن يأتي من يحمله ويفصله بالعشر من معشاره - فقد استعمل الناس فيه فصوله جامعة لمعاني الكلام، وتصرفوا في موضعها تصرفا توقفت عليه أحكام الحكام. ومنهم من سبرها ودربها، ورتبها، وبوبها، وحسبها وكتبها. فصارت مما لا يجهل ولا ينكر، وإذا وقعت لاحد من الحذاق حزبة نزلها بلطيف استنباطه على الأوضاع، وإن كانت في كتب الوثائق لم تذكر. ومثل ذلك كثير. ولا ينبئك مثل خبير.
وكان قد وقع لي شئ أشكل علي، وخفي فيه الصواب. فعدلت إلى السؤال عنه من عدول فضلاء، وأساطين من الموقعين النبهاء والنبلاء. فلم يأتني أحد ممن سألته بجواب. وربما قال الذي عنده علم من الكتاب: لا بأس أن تضع في هذا الفن كتابا، تكشف فيه ظلمة ما أبهم من الاشكال فيتضح. فقلت له: أبشر، فإن الباب الذي قرعته قد فتح. وها قد نهضت لذلك فاسترح. وشرعت والشروع كما علمت ملزم، وأمر من أمرني بذلك واجب الامتثال، كوني بتمييزه وخيره وشرطه: أنصب وأرفع وأجزم.
واستخرت الله الذي ما خاب من استخاره، ولا ندم من استجاره. وجعلت هذا الكتاب ناطقا بمحامد الكتب السابقة، وإنها لافصح ناطقة. سلكت فيه سبيل مصطلح أهل هذا الزمان، منبها في كل باب من أبوابه على الحكم المتعلق به بأوضح بيان، ثم على مسائل الخلاف الجاري في كل مسألة بين إمامنا الشافعي ومالك، وأحمد، وأبي