التكافؤ في القصاص ليس مما نحن فيه بسبيل، ولو اعتبرناه لرفع الحر على العبد والوالد على الولد. (وإذا) حضر الخصمان بين يديه و (جلسا) أو وقفا كما هو الغالب، (فله أن يسكت) عنهما حتى يتكلما لأنهما حضرا ليتكلما. (و) له (أن يقول) إن لم يعرف المدعي: (ليتكلم المدعي) منكما، لأنه ربما هاباه. وله إن عرفه أن يقول له: تكلم كما في الروضة وأصلها. والأولى أن يقول ذلك القائم بين يديه، فإن طال سكوتهما بغير سبب من هيبة وتحرير كلام ونحوهما قال: ما خطبكما؟ قال الماوردي: فإن لم يدع واحد منهما أقيما من مكانهما. قال الماوردي: والأولى بالخصم أن يستأذن القاضي في الكلام. (فإذا ادعى) أحدهما دعوى صحيحة، (طالب خصمه بالجواب) وإن لم يسأله المدعي، لأن المقصود فصل الخصومة وبذلك تنفصل، فيقول له: ما تقول؟ أو: اخرج من دعواه إن كانت ممكنة فإن علم كذب المدعي مثل أن يدعي الذمي استئجار الأمير أو الكبير لعلف الدواب أو كنس بيته وكدعوى المعروف بالعيب وجر ذوي الاقدار لمجلس القضاة واستحلافهم ليفتدوا منه بشئ فكذلك، خلافا للأصطخري في قوله لا يلتفت إليه.
(فإن أقر) بما ادعى عليه به حقيقة وحكما، (فذاك) ظاهر في ثبوته بغير حكم بخلاف البينة، لأن دلالة الاقرار ولو حكما على وجوب الحق جلية إذ الانسان على نفسه بصير، بخلاف البينة فإنها تحتاج إلى نظر واجتهاد. وللمدعي بعد الاقرار أن يطلب من القاضي الحكم عليه. (وإن أنكر) الدعوى، وهي مما لا يمين فيها في جانب المدعى، (فله) أي القاضي (أن يقول للمدعي: ألك بينة) وإن كان الحق مما يثبت بالشاهد واليمين قال له: ألك بينة أو شاهد مع يمين؟ فإن كان اليمين في جانب المدعي لكونه أمينا أو في قسامة قال له: أتحلف؟ ويقول للزوج المدعي على زوجته بالزنا: أتلاعنها؟
فلو عبر المصنف بالحجة بدل البينة كان أولى ليشمل جميع ذلك. (و) للقاضي (أن) لا يستفهم المدعي عن البينة بأن (يسكت) تحرزا عن اعتقاد ميله إلى المدعي. نعم إن جهل المدعي أن له إقامة البينة فلا يسكت، بل يجب إعلامه بأن له ذلك كما أفهمه كلام المهذب وغيره. وقال البلقيني: إن علم علمه بذلك فالسكوت أولى، وإن شك فالقول أولى، وإن علم جهله به وجب إعلامه اه. وهو تفصيل حسن. (فإن قال) المدعي: (لي بينة) وأقامها، فذاك (وأريد تحليفه فله ذلك) لأنه إن تورع عن اليمين وأقر سهل الامر على المدعي واستغنى عن إقامة البينة، وإن حلف أقام المدعي البينة وأظهر خيانته وكذبه، فله في طلب تحليفه غرض ظاهر. واستثنى البلقيني ما إذا ادعى لغيره بطريق الولاية أو النظر أو الوكالة أو لنفسه ولكن كان محجورا عليه بسفه أو فلس أو مأذونا له في التجارة أو مكاتبا فليس له ذلك في شئ من هذه الصور لئلا يحلف، ثم يرفعه لحاكم يرى منع البينة بعد الحلف فيضيع الحق. ورد بأن المطالبة متعلقة بالمدعي فلا يرفع غريمه إلا لمن يسمع البينة بعد الحلف بتقدير أن ما ينفصل أمره عند الأول. (أو) قال: (لا بينة لي) وأطلق، أو زاد عليه: لا بينة لي حاضرة ولا غائبة، أو: كل بينة أقيمها فهي باطلة أو كاذبة أو زور، وحلفه (ثم أحضرها قبلت في الأصح) لأنه ربما لم يعرف بينة أو نسي، ثم عرف أو تذكر. والثاني: لا للمناقضة، إلا أن يذكر لكلامه تأويلا ككنت ناسيا أو جاهلا، ونسبه الماوردي والروياني إلى الأكثرين. أما لو قال: لا بينة لي حاضرة ثم أحضرها، فإنها تقبل قطعا لعدم المناقضة. ولو قال: شهودي فسقة أو عبيد فجاء بعدول، وقد مضت مدة استبراء أو عتق، أقبلت شهادتهم وإلا فلا. قال الأذرعي: وهذا ظاهر فيما إذا اعترف أن هذه البينة هي التي نسب إليها ذلك، أما لو أحضر بينة عن قرب فقال: هذه بينة عادلة جهلتها أو نسيتها غير تلك ثم علمتها أو تذكرتها، فيشبه أن تقبل لا سيما إذا كانت حرية المحضرين وعدالتهم مشهورة.
تنبيه: يندب للقاضي بعد ظهور وجه الحكم ندب الخصمين إلى صلح يرجى، ويؤخر له الحكم يوما ويومين برضاهما، بخلاف ما إذا لم يرضيا. (وإذا ازدحم) في مجلس القاضي (خصوم) مدعون، (قدم) حتما (الأسبق)