كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (تحقيق الآملي) - العلامة الحلي - الصفحة ٢٠٢
أقول: أما إثبات الغايات للحركات الطبيعية فقد تقدم البحث فيه (1) وأما العلل الاتفاقية فقد نفاها قوم (2) لأن السبب إن استجمع جهات المؤثرية لزم حصول
(١) في هذه المسألة حيث قال آنفا: أما الحركات الاسطقسية فقد أثبت الأوائل لها غايات.. الخ.
(٢) الحق أن كل ممكن فله سبب، والاتفاق في نظام العالم منفي، وكل ما يتوهم أنه اتفاقي فهو حق وجب وجوده إلا أن العامة يسمون نادر الوجود أو الذي سببه مجهول لهم اتفاقيا والنادر له سبب، والشئ ما لم يجب وجوده لا يتحقق قط، وما لم ينف جميع أنحاء العدم عنه لا يوجد. ونعم ما قال المتأله السبزواري في الحكمة المنظومة (ص ١٢٢).
وليس في الوجود الاتفاقي إذ كل ما يحدث فهو راقي لعلل بها وجوده وجب يقول الاتفاق جاهلالسبب وقال في تعليقته عليه: قولنا وليس في الوجود الاتفاقي رد على القائل بالاتفاق فيزعم لسوء ظنه أن المطر مثلا لضرورة المادة كائن إذ الشمس بخرت من البحار والأراضي الرطبة فإذا ارتفع البخار ووصل إلى الزمهرير برد وصار ماءا ونزل ضرورة فاتفق أن يتحقق مصالح شتى من غير قصد، ولم يعلم هذا الجاهل أنه لا يقع شئ في العالم ولو كان أحقر ما يتصور بدون علم الله وإرادته وقدرته المحيطة، وقد مر أن كل القوى والمبادئ مجالي مشيته وقدرته، فهب أن الشمس تبخر فمن الذي يسخرها ويديرها ويسيرها والنفس المتعلقة بها التي تجرها إلى الجنوب والشمال وتفعل الفصول الأربعة من أمر من هو وتجلى من عليه وبنور من يستضئ.
وقوله: يقول الاتفاق جاهلالسبب، ناظر إلى عبارة المحقق الطوسي في شرحه على منطق الإشارات في الفصل المبحوث فيه عن العرضي اللازم غير المقوم، حيث قال: لازم الشئ بحسب اللغة هو ما لا ينفك الشئ عنه، وهو إما داخل فيه أو خارج عنه، والأول هو الذاتي المقوم، والثاني هو المصاحب الدائم فإن المصاحب منه ما يصاحبه دائما، ومنه ما يصاحب وقتا ما، وسبب المصاحبة إما أن يكون بحيث يمكن أن يعلم أو لا يكون، والأول ينسب إلى اللزوم في العرف، والثاني ينسب إلى الاتفاق، فإن الاتفاق لا يخلو عن سبب ما إلا أن الجاهل بسببه ينسبه إلى الاتفاق (ص ١٨ ط ١).
ونحوه ما قال في آخر شرح الفصل التاسع من النمط الثاني من الإشارات في بيان قول الشيخ وستعلم أن الاتفاق يستند إلى أسباب غريبة: الاتفاق ليس على ما يظن أنه لا يستند إلى سبب بل هو الذي يستند إلى سبب غريب يندر وجوده ولا يتفطن له فينسب إلى الاتفاق (ص ٥٣ ط ١).
أقول: تفصيل البحث عن ذلك يطلب في النمطين الرابع والخامس من الإشارات، ثم يجب عليك التمييز بين الاتفاق الذي يقول به المنطقي، وبين قول الحكيم من أن ما يوجد في الخارج ليس بإتفاقي، فالمنطقي يبحث عن اللزوم بين القضيتين وعدمها فما لم يكن بينهما لزوم يقول: إن القضية اتفاقية، كقولك: إذا كانت الشمس طالعة كانت الحمامة طائرة. وأما الفلسفي فيحكم بأن كل واحد من طرفي القضية في النظام الوجودي وجب وجوده فوجد، فتبصر.
واعلم أن لمولانا مبين الحقائق الإمام الصادق صلوات الله عليه في المقام كلاما في توحيد المفضل ينبغي أن نتشرف بتبرك نقله، قال عليه السلام (البحار ج ٢ ط ١ ص ٤٦ و ٤٧):
فأما أصحاب الطبائع فقالوا: إن الطبيعة لا تفعل شيئا لغير معنى ولا [تتجاوز] عما فيه تمام الشئ في طبيعته، وزعموا أن المحنة تشهد بذلك فقيل لهم: فمن أعطى الطبيعة هذه الحكمة والوقوف على حدود الأشياء بلا مجاوزة لها، وهذا قد تعجز عنه العقول بعد طول التجارب؟
فإن أوجبوا للطبيعة الحكمة والقدرة على مثال هذه الأفعال فقد أقروا بما أنكروا لأن هذه هي صفات الخالق، وإن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة فهذا وجه الخلق يهتف بأن الفعل للخالق الحكيم.
وقد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد والتدبير في الأشياء، وزعموا أن كونها بالعرض والاتفاق، وكانوا مما احتجوا به هذه الإناث التي تلد غير مجرى العرف والعادة كالانسان يولد ناقصا أو زائدا إصبعا ويكون المولود مشوها مبدل الخلق، فجعلوا هذا دليلا على أن كون الأشياء ليس بعمد وتقدير بل بالعرض كيف ما اتفق أن يكون.
وقد كان أرسطا طاليس رد عليهم فقال: إن الذي يكون بالعرض والاتفاق إنما هو شئ في الفرط مرة مرة لأعراض تعرض للطبيعة فتزيلها عن سبيلها وليس بمنزلة الأمور الطبيعية الجارية على شكل واحد جريا دائما متتابعا.
وأنت يا مفضل ترى أصناف الحيوان أن يجري أكثر ذلك على مثال ومنهاج واحد كالانسان يولد وله يدان ورجلان وخمس أصابع كما عليه الجمهور من الناس. فأما ما يولد على خلاف ذلك فإنه لعلة تكون في الرحم أو في المادة التي ينشأ منها الجنين، كما يعرض في الصناعات حين يتعمد الصانع الصواب في صنعته فيعوق دون ذلك عائق في الأداة، أو في الآلة التي يعمل فيها الشئ، فقد يحدث مثل ذلك في أولاد الحيوان للأسباب التي وصفنا فيأتي الولد زائدا أو ناقصا أو مشوها ويسلم أكثرها فيأتي سويا لا علة فيه، فكما أن الذي يحدث في بعض الأعمال الأعراض لعلة فيه لا توجب عليها جميعا الاهمال وعدم الصانع، كذلك ما يحدث على بعض الأفعال الطبيعية لعائق يدخل عليها لا يوجب أن يكون جميعها بالعرض والاتفاق.
فقول من قال في الأشياء أن كونها بالعرض والاتفاق من قبل أن شيئا منها يأتي على خلاف الطبيعة يعرض له خطأ وخطل.
فإن قالوا: ولم صار مثل هذا يحدث في الأشياء؟ قيل لهم: ليعلم أنه ليس كون الأشياء باضطرار من الطبيعة ولا يمكن أن يكون سواه كما قال قائلون، بل هو تقدير وعمد من خالق حكيم، إذ جعل الطبيعة تجري أكثر ذلك على مجرى ومنهاج معروف، ويزول أحيانا عن ذلك لأعراض تعرض لها فيستدل بذلك على أنها مصرفة مدبرة فقيرة إلى إبداء الخالق وقدرته في بلوغ غايتها وإتمام عملها تبارك الله أحسن الخالقين.
أقول: تبجيل الإمام عليه السلام أرسطا طاليس بما نطق فيه من لسان العصمة حجة على المتقشفين الذين ليس لهم إلا إزراء العلم وذويه بما أوهم فيهم نفوسهم الأمارة بالسوء والإيذاء فهؤلاء بمعزل عن سبيل الولاية وإلا فهذا ولي الله الأعظم يبجل العلم والعالم. وكفى بأرسطا طاليس فخرا أن حجة الله على خلقه نطق باسمه تبجيلا وارتضى سيرته السنية المضيئة بأنه كان يسلك الناس إلى بارئهم من طريق وحدة الصنع والتدبير، ويوقظ عقولهم بأن الاتفاقي لا يكون جاريا دائما متتابعا وما هو سنة دائمة لا تبدل ولا تحول فهو تحت تدبير الملكوت، فكأن الأصل ما هو قبل الطبيعة وفوقها وبعدها.
قال العالم الأوحدي محمد الديلمي في محبوب القلوب (ص ١٤ ط ١): يروى أن عمرو بن العاص قدم من الإسكندرية على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأله عما رأى؟ فقال: رأيت قوما يتطلسون ويجتمعون حلقا ويذكرون رجلا يقال له أرسطو طاليس لعنه الله.
فقال صلوات الله وتسليماته عليه وآله: مه يا عمرو! إن أرسطو طاليس كان نبيا فجهله قومه.
قال الديلمي: قال الفاضل الشهرزوري في تأريخ الحكماء: هكذا سمعناه.
ثم قال الديلمي: أقول ويؤيد هذه الرواية ما نقل السيد الطاهر ذو المناقب والمفاخر رضي الدين علي بن طاووس قدس الله روحه في كتابه فرج المهموم في معرفة الحلال والحرام من علم النجوم قولا بأن ابرخس وبطليموس كانا من الأنبياء، وأن أكثر الحكماء كانوا كذلك وإنما التبس على الناس أمرهم لأجل أسمائهم اليونانية، أي لما كانت أسماؤهم موافقة لأسماء بعض حكماء يونان الذين ينسب إليهم فساد الاعتقاد اشتبه على الناس حالهم وظنوا أن أصحاب تلك الأسامي بأجمعهم على نهج واحد من الاعتقاد.
واعلم أن الشيخ سلك في الشفاء مسلك وحدة الصنع والتدبير على رد القائلين بالبخت والاتفاق أيضا. وقد أشبع البحث عن ذلك وأجاد في الفصلين الثالث عشر والرابع عشر من المقالة الأولى منه في الفرق القائلين بالبخت والاتفاق ونقض حججهم (ج 1 ط 1 ص 25 - 33) وهذان الفصلان من غرر فصول الشفاء جدا، ومن كلماته السامية في الثاني منهما:
ولنمعن النظر في مثل تكون السنبلة عن البرة باستمداد المادة عن الأرض، والجنين عن النطفة باستمداد المادة عن الرحم هل ذلك بالاتفاق؟ ونجده ليس بإتفاقي بل أمرا توجبه الطبيعة وتستدعيه قوة.
وكذلك لنساعد أيضا على قولهم: إن المادة التي للثنايا لا تقبل إلا هذه الصورة، لكنا نعلم أنها لم يحصل لهذه المادة هذه الصورة لأنها لا تقبل إلا هذه الصورة بل حصلت هذه المادة لهذه الصورة لأنها لا تقبل إلا هذه الصورة فإنه ليس البيت إنما رسب فيه الحجر وطفى الخشب، لأن الحجر أثقل والخشب أخف، بل هناك صنعة صانع لم يصلح لها إلا أن يكون نسب مواد ما تفعله هذه النسبة فجاء بها على هذه النسبة، والتأمل الصادق يظهر صدق ما قلناه وهو أن البقعة الواحدة إذا سقط فيها حبة برة أنبتت سنبلة برة أو حبة شعير أنبتت سنبلة شعير، ويستحيل أن يقال: إن الأجزاء الأرضية والمائية تتحرك بذاتها وتنفذ في جوهر البرة وتربيه فإنه سيظهر أن تحركها عن مواضعها ليس لذاتها، والحركات التي لذاتها معلومة فيجب أن يكون تحركها أنما هو يجذب قوى مستكنة في الحبات جاذبة بإذن الله. وإن كانت الأمور تجري اتفاقا فلم لا ينبت البرة شعيرة؟ ولم لا يتولد شجرة مركبة من تين وزيتون كما يتولد عندهم بالاتفاق عنز أيل؟ ولم لا يتكرر هذه النوادر بل يبقى الأنواع محفوظة على أكثر؟ إلى آخر ما أفاد.
وقال العارف الرومي في المثنوي:
هيچ گندم كارى وجوبردهد ديده اى اسبى كه كره خر دهد