ذلك لأنه لم ينشد قط ممدوحا وهذه فضيلة تفرد فيها عن الشعراء فكتب بهذه الأبيات إليه مع قصيدة في كتاب:
جناني شجاع ان مدحت وأنما * لساني إذا سيم النشيد جبان وما ضر قوالا أطاع جنانه * إذا خانه عند الملوك لسان ورب حيي في السلام وقلبه * وقاح إذا لف الجياد طعان ورب وقاح الوجه تحمل كفه * أنامل لم يقرع بهن عنان وفخر الفتى بالقول لا بنشيده * ويروى فلان مرة وفلان وحكى بعضهم قال أجتاز بعض الأدباء بدار الشريف الرضى ببغداد وهو لا يعرفها وقد أخنى عليها الزمان وذهبت بهجتها وخلقت ديباجتها وبقايا رسومها تشهد لها بالنظارة وحسن الشارة فوقف عليها متعجبا من صروف الزمان وطوارق الحدثان وتمثل بقول الشريف الرضى المذكور:
ولقد وقفت على ربوعهم * وطلولها بيد البلا نهب فوقفت حتى ضج من لغب * نضوى ولج بعذلي الركب وتلفتت عيني فمذ خفيت * عنى الطلول تلفت القلب فمر به شخص وهو ينشد الأبيات فقال له هل تعرف هذه الدار لمن؟
فقال لا فقال هذه الدار لصاحب الأبيات الشريف الرضى فتعجب من حسن الاتفاق.
ومثل هذه الحكاية ما ذكره الحريري في كتاب (درة الغواص في أوهام الخواص) وهو ما رواه ان عبيد بن شرية الجرهمي عاش ثلاثمائة سنة وأدرك الاسلام فأسلم فدخل على معاوية بن أبي سفيان بالشام وهو خليفة فقال حدثني بأعجب ما رأيت فقال مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميتا لهم فلما انتهيت إليهم اغرورقت عيناي بالدموع فتمثلت بقول الشاعر:
يا قلب إنك من أسماء مغرور * فاذكر وهل ينفعك اليوم تذكير قد بحت بالحب ما تخفيه من أحد * حتى جرت لك اطلاقا محاضير