باب القول في (1) العام والخاص (2) والمجمل والمفسر (3) قال أبو بكر إذا وردت آية عامة توجب حكما ووردت آية خاصة توجب حكما بضد موجب الآية العامة فإن ذلك ليس يخلو من أحد وجوه أربعة
(1) ولو قال: القول في تعارض العام والخاص لكان أيين للمراد بمضمون الباب، وهذه المسألة تدخل في مسائل تعارض النصوص ولذلك لابد من توطئة نمهد بها لتصور هذه المسألة واستيعابها، فتقول:
إن تقسيمات الشافعية لتعرض النصين من أشمل وأدق التقسيمات عن سواهم ولهذا سنذكر تقسيمهم محررا فيهما يلي:
إذا تعارض نصان فهما على قسمين:
الأول: إما أن يكونا متساويين في القوة والعموم.
الثاني: أن لا يكونا كذلك.
والمراد بتساويهما في القوة أن يكونا معا معلومين أو مظنونين.
وبتساويهما في العموم أن يصدق كل منهما على كل ما صدق عليه الاخر.
فأما القسم الأول: وهو أن يتساويا في القوة والعموم ففيه ثلاثة أحوال:
أحدهما: أن يعلم أن أحدهما متأخر الورود عن الاخر ويعلم أيضا بعينه، فحينئذ يكون ناسخا للمتقدم سواء كانا معلومين أو مظنونين وسواء كانا من الكتاب والسنة، أو أحدهما من الكتاب والاخر من الستة، إلا أن من يقول إن الكتاب لا يكون ناسخا للسنة وبالعكس فإنه يمنع ورود هذا القسم.
الثاني أن يجهل المتأخر منهما فلم يعلم عينه فينظر، فإن كانا معلومين فيتساقطان ويجب الرجوع إلى غيرهما لان كلا منهما يحتمل أن يكون هو المنسوخ احتمالا على السواء، وإن كانا مظنونين وجب الرجوع إلى الترجيح فيعمل بالأقوى فإن تساويا يخير المجتهد.
الثالث: أن يعلم تقارنهما، فإن كانا معلومين فإن أمكن التمييز بينهما تعين القول به، فإنه إذا تعذر الجمع لم يبق إلا التخيير، ولا يجوز أن يرجح أحدهما على الاخر بقوة الاسناد لان المعلوم لا تقبل الترجيح.
أما القسم الثاني: وهو أن لا يتساويا في القوة والعموم جميعا، فأما أن يتساويا في العموم ولم يتساويا في القوة، أو عكسه، أو لم يحصل بينهما تساو لا في العموم ولا في القوة فهذه أحوال ثلاثة:
أولها: التساوي في العموم والخصوص مع عدم التساوي في القوة، بأن يكون أحدهما قطعيا والاخر ظنيا، فيعمل بالقطعي ي سواء علم تقدم أحدهما على الاخر أم لم يعلم، وسواء تقدم القطعي أم الظني، وهذا الاطلاق يشمل ما إذا كان المقطوع عاما والمظنون خاصا، والصحيح أن المظنون يخصص المقطوع.
وثانيها: أن يتساويا في في القوة مع عدم التساوي في العموم والخصوص بأن يكونا قطعين أو ظنيين أو ظنيين أو يكونا عامين لكن أحدهما أعم من الأخ إما مطلقا أو من وجهه أو يكونا خاصين، فإن كانا عامين أو كان أحدهما الاخر أو لم يعلم، اللهم إلا إن تقدم الأعم وورد الأخص بعد العمل به فإن الأخص حينئذ يكون ناسخا له فيما تناوله الأخص لا مخصصا، لامتناع تأخير البيان عن وقت العمل.
وإن كان أحدهما عم من الاخر من وجه وأخص من وجه - وهذا ما تكلم فيه الامام الجصاص في المسألة التالية لهذه المسألة - فعند الشافعية يصار إلى الترجيح بينهما سواء كانا قطعيين أم ظنين، لكن لا يمكن الترجيح في القطعيين بقوة الاسناد بل يرجح بكون حكم أحدهما حظرا والاخر إباحة، وأن يكون أحدهما شرعيا والاخر عقليا، أو مثبتا والاخر نافيا ونحو ذلك، وفي الظنين يرجح بقوة الاسناد.
وقول الشافعية بالترجيح نلاحظ فيه أن منهم من أطلق كما في جمع الجوامع، وفي شرح الورقات قيده فقال: إن أمكن الجمع بتخصيص عموم كل بخصوص الاخر وجب وإلا احتج إلى الترجيح.
وعند الحنابلة الترجيح أيضا في هذه المسألة كما ذكره في المسودة.
ثالثها: أن لا يحصل بينهما تساو في العموم الخصوص ولا في القوة.
فإن اختلفا في كل واحد من هذين بأن يكون أحدهما قطعيا والاخر ظنيا وهما عامان، ولكن أحدهما أعم من الاخر مطلقا أو من وجه، أو خاصان، فإن كانا عامين وأحدهما أعم من الاخر من وجه صير إلى الترجيح - كما قال الشافعية - فإنه قد يترجح الظني بما يتضمنه الحكم من كونه حظر أو نفيا وغير ذلك سواء علم تأخر القطعي عن الظني أم تقدمه أم جهل الحال، وأما إن كانا خصين فقال الشافعية العمل بالقطعي مطلقا.
راجع في ذلك:
الابهاج 3 / 142 وما بعدها، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2 / 79 والمسودة 139.
(2) عبارة ح " الخاص والعام ".
(3) يلاحظ هنا أن عبارة " والمجمل والمفسر " قد وردت في النسختين وفي فهرس النسخة (ح) إلا أن الجصاص لم يتكلم عن هذا الموضوع البتة، اللهم إلا إشارة عابرة في ورقة 57 - أ، قال:
" إن المفسر يخص المجمل " فإما أن تكون هذه زيادة من النساخ لم يتضمنها كتاب الفصول للجصاص، وإما أن تكون ساقطة من النسخ التي تحت أيدينا وكلا الاحتمالين وارد.
إلا أننا نرجح أنها إضافة من النساخ ولم تكن موجودة في الأصل لامرين:
الأول: إن سياق الكلام في عنوان هذا الباب لا يتضمن إلا الكلام على تعارض العام والخاص دون أن يشعر أن هناك سقطا في ناحية ما بحيث تحمل على الكلام في المجمل والمفسر وما وردت إلا إشارة بسيطة ورقة 72 - ب قال: " والامر على حديث أبي سعيد لأنه مفسر لا يحتمل المعاني وحديث أسامة يحتمل المعاني ".
الثاني: إن الكتب المتداولة بين أيدينا من كتب الأحناف وغيرهم لم تنقل رأيا للجصاص في تعارض المجمل والمفسر.