وموقف الجصاص هذا يدل على بعده عن الشبه وعزوفه عن الدنيا فإن مثل هذه المناصب كانت في هذا القرن موضعا كثير الشبه لتأثير السلطان وكثرة الحساد، وقد كانت هذه طريقة شيخه أبو الحسن الكرخي فقد كان لا يقبل القضاء لهذه الأسباب ورعا وزهدا، وكان الامام الكرخي يعنف من يتقلد هذا المنصب من تلاميذه، بل كان يهجره، وحدث ذلك مع تلميذه أبي القاسم علي بن محمد التنوخي حينما تولى القضاء فهجره الكرخي وقطع مكاتبته، وكان يدخل إلى بغداد - فيما بعد - فلا يمكنه الدخول عليه، فإذا سئل الكرخي عن سببه قال: كان معاشرا لنا على الفقر والفاقة وبلغني أنه ينفق على مائدته في كل يوم دينارين. (1) ه - رحلاته كان الإمام أحمد بن علي الرازي، كغيره من علماء عصره يعتمدون في التلقي على الرحلة، وقد استفاد الجصاص وأفاد من هذه الرجلات ممن شاهدهم من مشايخ تلك الأقطار. وكان أول خروجه من الري سنة خمس وعشرين وثلاثمائة أي لما بلغ سن العشرين فغادرها إلى بغداد حيث التقى في هذه السنة بالامام الشيخ أبي الحسن الكرخي ثم غادرها إلى الأهواز وكان السبب في خروجه ما أصاب بغداد من الغلاء، ثم عاد إلى بغداد لما زال الغلاء، ثم خرج إلى نيسابور مع الحاكم النيسابوري وكان خروجه برأي ومشورة شيخه الكرخي، فلما مات شيخه الكرخي سنة أربعين وثلاثمائة عاد الجصاص في سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، فأخذ مجلس شيخه، وكان أبو علي الشاشي يشغل هذا المكان بعد الكرخي بسبب غياب الجصاص وفي بغداد درس في سويقة غالب، ودرس في درب المقبر، ثم انتقل في سنة ستين إلى درب عبده أبو سعيد البرذعي (2).
(١٤)