أنه تعالى أباح الأعذار وما كلف المكلف إلا ما في وسعه وطاقته، فثبت أنه تعالى لا يكلف بما لا يطاق وثانيها: أن كلمة على للوجوب، فتدل على أنه قد يجب للعبد على الله شيء وثالثها: أنه لو لم يكن العبد مستقلا بالإيجاد لما كان في وضع الدلائل فائدة، وأجوبة أصحابنا عن مثل هذه الوجوه مشهورة، وذكر الواحدي وجها آخر نقله عن الفراء فقال المعنى: إن علينا للهدى والإضلال، فترك الإضلال كما قال: * (سرابيل تقيكم الحر) * (النحل: 81) وهي تقي الحر والبرد، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: يريد أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي، وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي فذكر معنى الإضلال، قالت المعتزلة: هذا التأويل ساقط لقوله تعالى: * (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر) * (النحل: 9) فبين أن قصد السبيل على الله، وأما جور السبيل فبين أنه ليس على الله ولا منه، واعلم أن الاستقصاء قد سبق في تلك الآية.
أما قوله تعالى: * (وإن لنا للاخرة والاولى) *. ففيه وجهان الأول: أن لنا كل ما في الدنيا والآخرة فليس يضرنا ترككم الاهتداء بهدانا، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤكم، بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم ولو شئنا لمنعناكم من المعاصي قهرا، إذ لنا الدنيا والآخرة ولكننا لا نمنعكم من هذا الوجه، لأن هذا الوجه يخل بالتكليف، بل نمنعكم بالبيان والتعريف، والوعد والوعيد الثاني: أن لنا ملك الدارين نعطي ما نشاء من نشاء، فيطلب سعادة الدارين منا، والأول أوفق لقول المعتزلة، والثاني أوفق لقولنا.
أما قوله تعالى: * (فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصلاهآ إلا الاشقى * الذى كذب وتولى) *.
تلظى أي تتوقد وتتلهب وتتوهج، يقال: تلظت النار تلظيا، ومنه سميت جهنم لظى، ثم بين أنها لمن هي بقوله: * (لا يصلاها إلا الأشقى) * قال ابن عباس: نزلت في أمية بن خلف وأمثاله الذين كذبوا محمدا والأنبياء قبله، وقيل: إن الأشقى بمعنى الشقي كما يقال: لست فيها بأوحد أي بواحد، فالمعنى لا يدخلها إلا الكافر الذي هو شقي لأنه كذب بآيات الله، وتولى أي أعرض عن طاعة الله. واعلم أن المرجئة يتمسكون بهذه الآية في أنه لا وعيد إلا على الكفار، قال القاضي: ولا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها، ويدل على ذلك ثلاثة أوجه أحدها: أنه يقتضي أن لا يدخل النار * (إلا الأشقى * الذي كذب وتولى) * فوجب في الكافر الذي لم يكذب ولم يتول أن لا يدخل النار وثانيها: أن هذا إغراء بالمعاصي، لأنه بمنزلة أن يقول الله تعالى: لمن صدق بالله ورسوله ولم يكذب ولم يتول: أي معصية أقدمت عليها، فلن تضرك، وهذا يتجاوز حد الإغراء إلى أن تصير