هذه الآية أنه سبحانه وتعالى أعلى من رب آخر، بل ليس فيه إلا أنه أعلى، ثم لنا فيه تأويلات.
الأول: أنه تعالى أعلى وأجل وأعظم من كل ما يصفه به الواصفون، ومن كل ذكر يذكره به الذاكرون، فجلال كبريائه أعلى من معارفنا وإدراكاتنا، وأصناف آلائه ونعمائه أعلى من حمدنا وشكرنا، وأنواع حقوقه أعلى من طاعاتنا وأعمالنا.
الثاني: أن قوله: * (الأعلى) * تنبيه على استحقاق الله التنزيه من كل نقص فكأنه قال سبحانه فإنه: * (الأعلى) * أي فإنه العالي على كل شيء بملكه وسلطانه وقدرته، وهو كما تقول: اجتنبت الخمر المزيلة للعقل أي اجتنبتها بسبب كونها مزيلة للعقل.
والثالث: أن يكون المراد بالأعلى العالي كما أن المراد بالأكبر الكبير.
المسألة السابعة: روي أنه عليه السلام كان يحب هذه السورة ويقول: " لو علم الناس علم سبح اسم ربك الأعلى لرددها أحدهم ست عشرة مرة " وروى: " أن عائشة مرت بأعرابي يصلي بأصحابه فقرأ: (سبح اسم ربك الأعلى، الذي يسر على الحبلى، فأخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى، ألا بلى ألا بلى) فقالت عائشة: لا آب غائبكم، ولا زالت نساؤكم في لزبة " والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى) * فاعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمر بالتسبيح، فكأن سائلا قال: الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد المعرفة، فما الدليل على وجود الرب؟ فقال: * (الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى) * واعلم أن الاستدلال بالخلق والهداية هي الطريقة المعتمدة عند أكابر الأنبياء عليهم * والدليل عليه ما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام، أنه قال: * (الذي خلقني فهو يهدين) * (الشعراء: 78) وحكى عن فرعون أنه لما قال لموسى وهارون عليهما السلام: * (فمن ربكما يا موسى) * (طه: 49)؟ قال موسى عليه السلام: * (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) * (طه: 50) وأما محمد عليه السلام فإنه تعالى أول ما أنزل عليه هو قوله: * (إقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق) * (العلق: 2, 1) هذا إشارة إلى الخلق، ثم قال: * (إقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم) * (العلق: 4, 3) وهذا إشارة إلى الهداية، ثم إنه تعالى أعاد ذكر تلك الحجة في هذه السورة، فقال: * (الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى) * وإنما وقع الاستدلال بهذه الطريقة كثيرا لما ذكرنا أن العجائب والغرائب في هذه الطريقة أكثر، ومشاهدة الإنسان لها، واطلاعه عليها أتم، فلا جرم كانت أقوى في الدلالة، ثم ههنا مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (خلق فسوى) * يحتمل أن يريد به الناس خاصة، ويحتمل أن يريد الحيوان، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوها أحدها: أنه جعل قامته مستوية معتدلة وخلقته حسنة، على ما قال: * (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) * (التين: 4) وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه، فقال: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) *، وثانيها: أن كل حيوان