النخل ولتعلمن أينآ أشد عذابا وأبقى) * اعلم أن في قوله: * (فألقى السحرة سجدا) * دلالة على أنه ألقى ما في يمينه وصار حية تلقف ما صنعوا وظهر الأمر فخروا عند ذلك سجدا وذلك لأنهم كانوا في الطبقة العليا من علم السحر فلما رأوا ما فعله موسى عليه السلام خارجا عن صناعتهم عرفوا أنه ليس من السحر البتة ويقال: قال رئيسهم كنا نغالب الناس بالسحر وكانت الآلات تبقى علينا لو غلبنا فلو كان هذا سحرا فأين ما ألقيناه فاستدلوا بتغير أحوال الأجسام على الصانع العالم القادر وبظهورها على يد موسى عليه السلام على كونه رسولا صادقا من عند الله تعالى، فلا جرم تابوا وآمنوا وأتوا بما هو النهاية في الخضوع وهو السجود، أما قوله تعالى: * (فألقي السحرة سجدا) * فليس المراد منه أنهم أجبروا على السجود إلا لما كانوا محمودين بل التأويل فيه ما قال الأخفش وهو أنهم من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا، وقال صاحب " الكشاف ": ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود. فما أعظم الفرق بين الإلقاءين، وروى أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ورأوا ثواب أهلها. وعن عكرمة: لما خروا سجدا أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة. قال القاضي: هذا بعيد لأنه تعالى لو أراهم عيانا لصاروا ملجئين، وذلك لا يليق به قولهم: * (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا) * (طه: 73). وجوابه: لما جاز لإبراهيم عليه السلام مع قطعه بكونه مغفورا له أن يقول: * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي) * (الشعراء: 82) فلم لا يجوز مثله في حق السحرة، واعلم أن هذه القصة تنبه على أسرار عجيبة من أمور الربوبية ونفاذ القضاء الإلهي وقدره في جملة المحدثات، وذلك لأن ظهور تلك الأدلة كانت بمرأى من الكل ومسمع فكان وجه الاستدلال فيها جليا ظاهرا وهو أنه حدثت أمور فلا بد لها من مؤثر والعلم بذلك ضروري، وذلك المؤثر إما الخلق، وإما غيرهم. والأول بديهي البطلان لأن كل عاقل يعلم بالضرورة من نفسه أنه لا يقدر على إيجاد الحيوانات وتعظيم جثتها دفعة واحدة ثم يصغرها مرة أخرى كما كانت وهذه العلوم الجلية متى حصلت في العقل أفادت القطع بأنه لا بد من مدبر لهذا العالم، فماذا يقول ألا ترى أن أولئك المنكرين جهلوا صحة هذه المقدمات وهذا في نهاية البعد، لأنا بينا أن كل واحد منها بحيث لا يمكن ارتياب العاقل فيه وإذا فقد عرفوا صحتها لكنهم أصروا على الجهل وكرهوا تحصيل العلم والسعادة لأنفسهم وأحبوا تحصيل الجهل والشقاوة لأنفسهم ما أرى أن عاقلا يرضى بذلك لنفسه قط، فلم يبق إلا أن يقال: العقل والدليل لا يكفي بل لا بد من مدبر يخلق هذه المقدمات في القلوب، ويخلق الشعور بكيفية ترتيبها وبكيفية استنتاجها
(٨٦)