العظيمة والكرامات الجسيمة، ثم أعطاه منصب الرسالة بعد أن كان فقيرا وكل ما يتعلق به الإعزاز والإكرام فقد حصل، ولو أن ذرة من هذه المناصب حصلت لأدون الناس لصار منشرح الصدر فبعد حصولها لكليم الله تعالى يستحيل أن لا يصير منشرح الصدر. والثاني: أنه لما لم يصر منشرح الصدر بعد هذه الأشياء لم يجز من الله تعالى تفويض النبوة إليه فإن من كان ضيق القلب مشوش الخاطر لا يصلح للقضاء على ما قال عليه السلام: " لا يقضي القاضي وهو غضبان " فكيف يصلح للنبوة التي أقل مراتبها القضاء؟ فهذا مجموع الأمور التي لا بد من البحث عنها في هذه الآية.
أما البحث الأول: وهو فائدة الدعاء وشرائطه فقد تقدم في تفسير قوله: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * (البقرة: 286) إلا أنه نذكر منها ههنا بعض الفوائد المتعلقة بهذا الموضع فنقول: اعلم أن للكمال مراتب ودرجات وأعلاها أن يكون كاملا في ذاته مكملا لغيره، أما كونه كاملا في ذاته فكل ما كان كذلك كان كماله من لوازم ذاته، وكل ما كان كذلك كان كاملا في الأزل ولكنه يستحيل أن يكون مكملا في الأزل لأن التكميل عبارة عن جعل الشيء كاملا وذلك لا يتحقق إلا عند عدم الكمال، فإنه لو كان حاصلا في الأزل لاستحال التأثير فيه، فإن تحصيل الحاصل محال وتكوين الكائن ممتنع فلا جرم أنه سبحانه، وإن كان كاملا في الأزل إلا أنه يصير مكملا فيما لا يزال، فإن قيل: إذا كان التكميل من صفات الكمال فحيث لم يكن مكملا في الأزل فقد كان عاريا عن صفات الكمال فيكون ناقصا وهو محال، قلنا: النقصان إنما يلزم لو كان ذلك ممكنا في الأزل لكنا بينا أن الفعل الأزلي محال فالتكميل الأزلي محال فعدمه لا يكون نقصانا، كما أن قولنا: إنه لا يقدر على تكوين مثل نفسه لا يكون نقصانا لأنه غير ممكن الوجود في نفسه، وكقولنا: إنه لا يعلم عددا مفصلا كحركات أهل الجنة لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه، وحركات أهل الجنة غير متناهية فلا يكون له عدد مفصل، فامتنع ذلك لا لقصور في العلم، بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول. إذا ثبت هذا فنقول: إنه سبحانه وتعالى لما قصد إلى التكوين وكان الغرض منه تكميل الناقصين لأن الممكنات قابلة للوجود وصفة الوجود صفة كمال فاقتضت قدرة الله تعالى على التكميل وضع مائدة الكمال للممكنات فأجلس على المائدة بعض المعدومات دون البعض لأسباب. أحدها: أن المعدومات غير متناهية فلو أجلس الكل على مائدة الوجود لدخل ما لا نهاية له في الوجود. وثانيها: أنه لو أوجد الكل لما بقي بعد ذلك قادرا على الإيجاد لأن إيجاد الموجود محال، فكان ذلك وإن كان كمالا للناقص لكنه يقتضي نقصان الكامل فإنه ينقلب القادر من القدرة إلى العجز. وثالثها: أنه لو دخل الكل في الوجود لما بقي فيه تمييز فلا يتميز القادر على الموجب والقدرة كمال والإيجاب بالطبع نقصان، فلهذه الأسباب أخرج بعض الممكنات إلى الوجود فإن قيل عليه سؤالان: أحدهما: أن الموجودات متناهية والمعدومات غير متناهية ولا نسبة للمتناهي