المسلمين فلأن الإنسان يجب أن يكون رقيق القلب مشفقا على أبناء جنسه وأي شفقة أعظم من أن يرى جمعا يتهافتون على النار فيمنعهم منها، وعن أبي سعيد الخدري عنه عليه السلام: " يقول الله تعالى اطلبوا الفضل عند الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم فإني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها في القاسية قلوبهم فإن فيهم غضبي "، وعند عبد الله بن أبي أوفى قال: " خرجت أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أبو بكر وعمر معه فجاء صغير فبكى فقال لعمر: ضم الصبي إليك فإنه ضال فأخذه عمر فإذا امرأة تولول كاشفة رأسها جزعا على ابنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدرك المرأة فناداها فجاءت فأخذت ولدها وجعلت تبكي والصبي في حجرها فالتفتت فرأت النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيت فقال عليه السلام عند ذلك: أترون هذه رحيمة بولدها؟ قالوا: يا رسول الله كفى بهذه رحمة فقال " والذي نفسي بيده إن الله أرحم بالمؤمنين من هذه بولدها ". ويروى: " أنه بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أصحابه إذ نظر إلى شاب على باب المسجد فقال: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا فسمع الشاب ذلك فولى، فقال: إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد علي بأني من أهل النار وأنا أعلم أنه صادق، فإذا كان الأمر كذلك فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتشعل النار بي حتى تبر يمينه ولا تشعل النار بأحد آخر، فهبط جبريل عليه السلام وقال: " يا محمد بشر الشاب بأني قد أنقذته من النار بتصديقه لك وفدائه أمتك بنفسه وشفقته على الخلق ". إذا ثبت ذلك فاعلم أن الأمر بالمعروف والشفقة على المسلمين واجب. ثم إن هارون عليه السلام رأى القوم متهافتين على النار ولم يبال بكثرتهم ولا بقوتهم بل صرح بالحق فقال: * (يا قوم إنما فتنتم به) * الآية وههنا دقيقة وهي أن الرافضة تمسكوا بقوله عليه السلام لعلي: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " ثم إن هارون ما منعته التقية في مثل هذا الجمع بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعة نفسه والمنع من متابعة غيره، فلو كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الخطأ لكان يجب على علي عليه السلام أن يفعل ما فعله هارون عليه السلام وأن يصعد على المنبر من غير تقية وخوف وأن يقول: * (فاتبعوني وأطيعوا أمري) * فلما لم يفعل ذلك علمنا أن الأمة كانوا على الصواب، واعلم أن هارون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه لأنه زجرهم عن الباطل أولا بقوله: * (إنما فتنتم به) * ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى ثانيا بقوله: * (وإن ربكم الرحمن) * ثم دعاها ثالثا إلى معرفة النبوة بقوله: * (فاتبعوني) * ثم دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله: * (وأطيعوا أمري) * وهذا هو الترتيب الجيد لأنه لا بد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق وهو إزالة الشبهات ثم معرفة الله تعالى هي الأصل ثم النبوة ثم الشريعة، فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه، وإنما قال: * (وإن ربكم الرحمن) * فخص هذا الموضع باسم الرحمن لأنه كان ينبئهم بأنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو الرحمن الرحيم، ومن رحمته أن خلصهم من آفات فرعون ثم إنهم لجهلهم قابلوا هذا الترتيب الحسن في الاستدلال بالتقليد والجحود فقالوا: * (لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) * كأنهم قالوا: لا نقبل حجتك ولكن نقبل قول
(١٠٦)