موسى وهارون عليهما السلام لعله كان أحدهما أولى والآخر كان ترك الأولى فلذلك فعله أحدهما وتركه الآخر، فإن قيل هذا التأويل غير جائز لأن كل واحد منهما كان جازما فيما يأتي به فعلا كان أو تركا وفعل المندوب وتركه لا يجزم به، قلنا: تقييد المطلق بالدليل غير ممتنع، فنحن نحمل ذلك الجزم في الفعل والترك على أن المراد افعل ذلك أو اتركه إن كنت تريد الأصلح، وقد يترك ذلك الشرط إذا كان تواطؤهما على رعايته معلوما متقررا. وثانيها: أن موسى عليه السلام أقبل وهو غضبان على قومه فأخذ برأس أخيه وجره إليه كما يفعل الإنسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب فإن الغضبان المتفكر قد يعض على شفتيه ويفتل أصابعه ويقبض لحيته فأجرى موسى عليه السلام أخاه هارون مجرى نفسه لأنه كان أخاه وشريكه فصنع به ما يصنع الرجل بنفسه في حال الفكر والغضب فأما قوله: * (لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) * فلا يمتنع أن يكون هارون عليه السلام خاف من أن يتوهم بنو إسرائيل من سوء ظنهم أنه منكر عليه غير معاون له، ثم أخذ في شرح القصة فقال: * (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) *، وثالثها: أن بني إسرائيل كانوا على نهاية سوء الظن بموسى عليه السلام حتى أن هارون غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى عليه السلام: أنت قتلته، فلما واعد الله تعالى موسى عليه السلام ثلاثين ليلة وأتمها بعشر وكتب له في الألواح من كل شيء ثم رجع فرأى في قومه ما رآى فأخذ برأس أخيه ليدنيه فيتفحص عن كيفية الواقعة فخاف هارون عليه السلام أن يسبق إلى قلوبهم ما لا أصل له فقال إشفاقا على موسى: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي لئلا يظن القوم ما لا يليق بك. ورابعها: قال صاحب " الكشاف ": كان موسى عليه السلام رجلا حديدا مجبولا على الحدة والخشونة والتصلب في كل شيء شديد الغضب لله تعالى ولدينه فلم يتمالك حين رآى قومه يعبدون عجلا من دون الله تعالى من بعد ما رأوا من الآيات العظام أن ألقى ألواح التوراة لما غلب على ذهنه من الدهشة العظيمة غضبا لله تعالى وحمية وعنف بأخيه وخليفته على قومه فأقبل عليه إقبال العدو المكاشر، واعلم أن هذا الجواب ساقط لأنه يقال: هب أنه كان شديد الغضب ولكن مع ذلك الغضب الشديد هل كان يبقى عاقلا مكلفا أم لا؟ فإن بقي عاقلا مكلفا فالأسئلة باقية بتمامها أكثر ما في الباب أنك ذكرت أنه أتى بغضب شديد وذلك من جملة المعاصي فقد زدت إشكالا آخر. فإن قلتم بأنه في ذلك الغضب لم يبق عاقلا ولا مكلفا فهذا مما لا يرتضيه مسلم البتة فهذه أجوبة من لم يجوز الصغائر وأما من جوزها فلا شك في سقوط السؤال والله أعلم. أما قوله: * (ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن) * ففيه وجهان: الأول: أن لا صلة والمراد ما منعك أن تتبعني. والثاني: أن يكون المراد ما دعاك إلى أن لا تتبعني فأقام منعك مقام دعاك وفي الاتباع قولان: أحدهما: ما منعك من اتباعي بمن أطاعك واللحوق بي وترك المقام بين أظهرهم وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء.
والثاني: أن تتبعني في وصيتي إذ قلت لك: * (أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) * (الأعراف: 142) فلم تركت قتالهم وتأديبهم وهذا قول مقاتل ثم قال: * (أفعصيت أمري) * ومعناه ظاهر