جميع أعداد البق والبعوض على العرش وعلى ما فوق العرش، فثبت أن كونه جالسا على العرش ليس من دلائل إثبات الصفات والذات ولا من صفات المدح والثناء، فلو كان المراد من قوله: * (ثم استوى على العرش) * كونه جالسا على العرش لكان ذلك كلاما أجنبيا عما قبله وعما بعده، وهذا يوجب نهاية الركاكة، فثبت أن المراد منه ليس ذلك، بل المراد منه كمال قدرته في تدابير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها وهو المطلوب. وثامنها: أن السماء عبارة عن كل ما ارتفع وسما وعلا، والدليل عليه أنه تعالى سمى السحاب سماء حيث قال: * (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) * (الأنفال: 11) وإذا كان الأمر كذلك، فكل ماله ارتفاع وعلو وسمو كان سماء، فلو كان إله العالم موجودا فوق العرش، لكان ذات الإله تعالى سماء لساكني العرش. فثبت أنه تعالى لو كان فوق العرش لكان سماء والله تعالى حكم بكونه خالقا لكل السماوات في آيات كثيرة منها هذه الآية وهو قوله: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض) * فلو كان فوق العرش سماء لسكان أهل العرش لكان خالقا لنفسه وذلك محال.
وإذا ثبت هذا فنقول: قوله: * (الذي خلق السماوات والأرض) * آية محكمة دالة على أن قوله: * (ثم استوى على العرش) * من المتشابهات التي يجب تأويلها، وهذه نكتة لطيفة، ونظير هذا أنه تعالى قال في أول سورة الأنعام: * (وهو الله في السماوات) * (الأنعام: 3) ثم قال بعده بقليل: * (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله) * (الأنعام: 12) فدلت هذه الآية المتأخرة على أن كل ما في السماوات، فهو ملك لله فلو كان الله في السماوات لزم كونه ملكا لنفسه، وذلك محال فكذا ههنا، فثبت بمجموع هذه الدلائل العقلية والنقلية أنه لا يمكن حمل قوله: * (ثم استوى على العرش) * على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز، وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان: الأول: أن نقطع بكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله، وهو الذي قررناه في تفسير قوله: * (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) * (آل عمران: 7) وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه.
والقول الثاني: أن نخوض في تأويله على التفصيل، وفيه قولان ملخصان: الأول: ما ذكره القفال رحمة الله عليه فقال: * (العرش) * في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك، يقال: ثل عرشه أي انتفض ملكه وفسد. وإذا استقام له ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا: استوى على عرشه، واستقر على سرير ملكه، هذا ما قاله القفال. وأقول: إن الذي قاله حق وصدق وصواب، ونظيره قولهم للرجل الطويل: فلان طويل النجاد وللرجل الذي يكثر