والعقلاء اتفقوا على أن العلم بفساد ذلك من أجل العلوم لضرورية، وأيضا فإن جوزتم ذلك فلم لا تجوزون أن يقال: إن جميع العالم من العرش إلى ما تحت الثرى جوهر واحد وموجود واحد إلا أن ذلك الجزء الذي لا يتجزأ حصل في جملة هذه الأحياز، فيظن أنها أشياء كثيرة، ومعلوم أن من جوزه، فقد التزم منكرا من القول عظيما. فإن قالوا: إنما عرفنا ههنا حصول التغاير بين هذه الذوات لأن بعضها يفنى مع بقاء الباقي. وذلك يوجب التغاير، وأيضا فنرى بعضها متحركا، وبعضها ساكنا والمتحرك غير الساكن، فوجب القول بالتغاير، وهذه المعاني غير حاصلة في ذات الله، فظهر الفرق، فنقول: أما قولك بأنا نشاهد أن هذا الجزء يبقى مع أنه يفنى ذلك الجزء الآخر، وذلك يوجب التغاير. فنقول: لا نسلم أنه فني شيء من الأجزاء بل نقول لم لا يجوز أن يقال أن جميع أجزاء العالم جزء واحد فقط؟ ثم إنه حصل ههنا وهناك، وأيضا حصل موصوفا بالسواد والبياض وجميع الألوان والطعوم، فالذي يفنى إنما هو حصوله هناك، فأما أن يقال إنه فني في نفسه، فهذا غير مسلم، وأما قوله: نرى بعض الأجسام متحركا وبعضها ساكنا، وذلك يوجب التغاير، لأن الحركة والسكون لا يجتمعان. فنقول: إذا حكمنا بأن الحركة والسكون لا يجتمعان لاعتقادنا أن الجسم الواحد لا يحصل دفعة واحدة في حيزين، فإذا رأينا أن الساكن بقي هنا، وأن المتحرك ليس هنا قضينا أن المتحرك غير الساكن. وأما بتقدير أن يجوز كون الذات الواحدة حاصلة في حيزين دفعة واحدة، ل يمتنع كون الذات الواحدة متحركة ساكنة معا، لأن أقصى ما في الباب أن بسبب السكون بقي هنا، وبسبب الحركة حصل في الحيز الآخر، إلا أنا لما جوزنا أن تحصل الذات الواحدة دفعة واحدة في حيزين معا لم يبعد أن تكون الذات الساكنة هي عين الذات المتحركة، فثبت أنه لو جاز أن يقال إنه تعالى في ذاته واحد لا يقبل القسمة، ثم مع ذلك يمتلئ العرش منه، لم يبعد أيضا أن يقال: العرش في نفسه جوهر فرد وجزء لا يتجزأ، ومع ذلك فقد حصل في كل تلك الأحياز، وحصل منه كل العرش ومعلوم أن تجويزه يفضي إلى فتح باب الجهالات. وثانيها: أنه تعالى قال: * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * (الحاقة: 17) فلو كان إله العالم في العرش، لكان حامل العرش حاملا للإله، فوجب أن يكون الإله محمولا حاملا، ومحفوظا حافظا، وذلك لا يقوله عاقل. وثالثها: أنه تعالى قال: * (والله الغني) * (محمد: 38) حكم بكونه غنيا على الإطلاق، وذلك يوجب كونه تعالى غنيا عن المكان والجهة. ورابعها: أن فرعون لما طلب حقيقة الإله تعالى من موسى عليه السلام ولم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرات، فإنه لما قال: * (وما رب العالمين) * (الشعراء: 23) ففي المرة الأولى قال: * (رب السماوات والأرض وما بينهما
(١١٣)