السورة، يعني المائدة، آية القلائد، وقوله: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، فكان النبي (ص) مخيرا، إن شاء حكم، وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: إن حكم هذه الآية ثابت لم ينسخ، وإن للحكام من الخيار في الحكم بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا وترك الحكم بينهم والنظر مثل الذي جعله الله لرسوله (ص) من ذلك في هذه الآية.
وإنما قلنا: ذلك أولاهما بالصواب، لان القائلين أن حكم هذه الآية منسوخ زعموا أنه نسخ بقوله: وأن احكم بينهم بما أنزل الله، وقد دللنا في كتابنا: كتاب البيان عن أصول الاحكام أن النسخ لا يكون نسخا إلا ما كان نفيا لحكم غيره بكل معانيه، حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالامرين جميعا على صحته بوجه من الوجوه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وإذ كان ذلك كذلك، وكان غير مستحيل في الكلام أن يقال: وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ومعناه: وأن احكم بينهم بما أنزل الله إذ حكمت بينهم باختيارك الحكم بينهم إذا اخترت ذلك ولم تختر الاعراض عنهم، إذ كان قد تقدم إعلام المقول له ذلك من قائله أن له الخيار في الحكم وترك الحكم كان معلوما بذلك أن لا دلالة في قوله: وأن احكم بينهم بما أنزل الله أنه ناسخ قوله: فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط لما وصفنا من احتمال ذلك ما بينا، بل هو دليل على مثل الذي دل عليه قوله: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط. وإذا لم يكن في ظاهر التنزيل دليل على نسخ إحدى الآيتين الأخرى، ولا نفي أحد الامرين حكم الآخر، ولم يكن عن رسول الله (ص) خبر يصح بأن أحدهما ناسخ صاحبه، ولا من المسلمين على ذلك إجماع صح ما قلنا من أن كلا الامرين يؤيد أحدهما صاحبه ويوافق حكمه حكمه ولا نسخ في أحدهما للآخر.
وأما قوله: وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا فإن معناه: وإن تعرض يا محمد عن المحتكمين إليك من أهل الكتاب فتدع النظر بينهم فيما احتكموا فيه إليك، فلا تحكم فيه بينهم، فلن يضروك شيئا، يقول: فلن يقدروا لك على ضر في دين ولا دنيا، فدع النظر بينهم إذا اخترت ترك النظر بينهم.