وقال آخرون: معنى النفي من الأرض في هذا الموضع: الحبس، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب في قول من قال: معنى النفي من الأرض في هذا الموضع: هو نفيه من بلد إلى بلد غيره وحبسه في السجن في البلد الذي نفي إليه، حتى تظهر توبته من فسوقه ونزوعه عن معصيته ربه.
وإنما قلت ذلك أولى الأقوال بالصحة، لان أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك على أحد الأوجه الثلاثة التي ذكرت. وإذ كان ذلك كذلك، وكان معلوما أن الله جل ثناؤه إنما جعل جزاء المحارب: القتل أو الصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف، بعد القدرة عليه لا في حال امتناعه كان معلوما أن النفي أيضا إنما هو جزاؤه بعد القدرة عليه لا قبلها، ولو كان هروبه من الطلب نفيا له من الأرض، كان قطع يده ورجله من خلاف في حال امتناعه وحربه على وجه القتال بمعنى إقامة الحد عليه بعد القدرة عليه. وفي إجماع الجميع أن ذلك لا يقوم مقام نفيه الذي جعله الله عز وجل حدا له بعد القدرة عليه. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أنه لم يبق إلا الوجهان الآخران، وهو النفي من بلدة إلى أخرى غيرها أو السجن.
فإذ كان كذلك، فلا شك أنه إذا نفي من بلدة إلى أخرى غيرها فلم ينف من الأرض، بل إنما نفي من أرض دون أرض. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله جل ثناؤه إنما أمر بنفيه من الأرض، كان معلوما أنه لا سبيل إلى نفيه من الأرض إلا بحبسه في بقعة منها عن سائرها، فيكون منفيا حينئذ عن جميعها، إلا مما لا سبيل إلى نفيه منه. وأما معنى النفي في كلام العرب: فهو الطرد، ومن ذلك قول أوس بن حجر:
ينفون عن طرق الكرام كما * ينفي المطارق ما يلي القرد ومنه قيل للدراهم الرديئة وغيرها من كل شئ: النفاية. وأما المصدر من نفيت، فإنه