* (يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) *. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: * (وكفلها زكريا) * بمعنى: وكفلها الله زكريا.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ: * (وكفلها) * مشددة الفاء بمعنى: وكفلها الله زكريا، بمعنى: وضمها الله إليه، لان زكريا أيضا ضمها إليه بإيجاب الله له ضمها إليه بالقرعة التي أخرجها الله له، والآية التي أظهرها لخصومه فيها، فجعله بها أولى منهم، إذ قرع فيها من شاحه فيها. وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومه في مريم إذ تنازعوا فيها أيهم تكون عنده، تساهموا بقداحهم فرموا بها في نهر الأردن، فقال بعض أهل العلم: رتب قدح زكريا، فقام فلم يجر به الماء وجرى بقداح الآخرين الماء، فجعل الله ذلك لزكريا أنه أحق المتنازعين فيها. وقال آخرون: بل صعد قدح زكريا في النهر، وانحدرت قداح الآخرين مع جرية الماء وذهبت، فكان ذلك له علما من الله في أنه أولى القوم بها. وأي الامرين كان من ذلك فلا شك أن ذلك كان قضاء من الله بها لزكريا على خصومه بأنه أولاهم بها، وإذا كان ذلك كذلك، فإنما ضمها زكريا إلى نفسه بضم الله إياها إليه بقضائه له بها على خصومه عند تشاحهم فيها واختصامهم في أولاهم بها.
وإذا كان ذلك كذلك كان بينا أن أولى القراءتين بالصواب ما اخترنا من تشديد كفلها. وأما ما اعتل به القارئون ذلك بتخفيف الفاء من قول الله: * (أيهم يكفل مريم) * وأن موجب صحة اختيارهم التخفيف في قوله: * (وكفلها) * فحجة دالة على ضعف اختيار المحتج بها. وذلك أنه غير ممتنع ذو عقل من أن يقول قائل: كفل فلان فلانا فكفله فلان، فكذلك القول في ذلك: ألقى القوم أقلامهم أيهم يكفل مريم، بتكفيل الله إياه بقضائه الذي يقضي بينهم فيها عند إلقائهم الأقلام.
وكذلك اختلفت القراء في قراءة زكريا، فقرأته عامة قراء المدينة بالمد، وقرأته عامة قراء الكوفة بالقصر. وهما لغتان معروفتان وقراءتان مستفيضتان في قراءة المسلمين، وليس في القراءة بإحداهما خلاف لمعنى القراءة الأخرى، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب.