وأولى التأويلات التي ذكرناها في هذه الآية بالصواب تأويل من قال: يخرج الانسان الحي والانعام والبهائم الاحياء من النطف الميتة، وذلك اخراج الحي من الميت، ويخرج النطفة الميتة من الانسان الحي والانعام والبهائم الاحياء، وذلك اخراج الميت من الحي، وذلك أن كل حي فارقه شئ من جسده، فذلك الذي فارقه منه ميت، فالنطفة ميتة لمفارقتها جسد من خرجت منه، ثم ينشئ الله منها إنسانا حيا وبهائم وأنعاما أحياء، وكذلك حكم كل شئ حي زايله شئ منه، فالذي زايله منه ميت، وذلك هو نظير قوله: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) *.
وأما تأويل من تأوله بمعنى الحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة، والبيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، فإن ذلك وإن كان له وجه مفهوم، فليس ذلك الأغلب الظاهر في استعمال الناس في الكلام، وتوجيه معاني كتاب الله عز وجل إلى الظاهر المستعمل في الناس، أولى من توجيهها إلى الخفي القليل في الاستعمال.
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته جماعة منهم: * (تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) * بالتشديد وتثقيل الياء من الميت، بمعنى أنه يخرج الشئ الحي من الشئ الذي قد مات، ومما لم يمت. وقرأت جماعة أخرى منهم: تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي بتخفيف الياء من الميت. بمعنى أنه يخرج الشئ الحي من الشئ الذي قد مات دون الشئ الذي لم يمت، وتخرج الشئ الميت دون الشئ الذي لم يمت من الشئ الحي، وذلك أن الميت مثقل الياء عند العرب ما لم يمت وسيموت وما قد مات. وأما الميت مخففا: فهو الذي قد مات، فإذا أرادوا النعت قالوا: إنك مائت غدا وإنهم مائتون، وكذلك كل ما لم يكن بعد، فإنه يخرج على هذا المثال الاسم منه، يقال:
هو الجائد بنفسه والطائبة نفسه بذلك، وإذا أريد معنى الاسم قيل: هو الجواد بنفسه والطيبة نفسه. فإذا كان ذلك كذلك، فأولى القراءتين في هذه الآية بالصواب قراءة من شدد الياء من الميت، لان الله جل ثناؤه يخرج الحي من النطفة التي قد فارقت الرجل، فصارت ميتة، وسيخرجه منها بعد أن تفارقه وهي في صلب الرجل، ويخرج الميت من الحي، النطفة التي تصير بخروجها من الرجل الحي ميتا، وهي قبل خروجها منه حية، فالتشديد أبلغ في المدح أكمل في الثناء.