بعضا حتى نزل الوحي برفع القتل، وقبلت توبة من بقي. وذكر ابن جريج أن السبب في أمرهم بقتل أنفسهم أن الله تعالى علم أن ناسا منهم ممن لم يعبد العجل، لم ينكروا عليهم ذلك، مخافة القتل، مع علمهم بأن العجل باطل، فلذلك ابتلاهم الله بأن يقتل بعضهم بعضا. وإنما امتحنهم الله تعالى بهذه المحنة العظيمة لكفرهم بعد الدلالات والآيات العظام. وقال الرماني: لا بد أن يكون في الأمر بالقتل لطف لهم، ولغيرهم، كما يكون في استسلام القاتل لطف له ولغيره.
فإن قيل: كيف يكون في قتلهم نفوسهم لطف لهم، ولا تكليف عليهم بعد القتل، واللطف لا يكون لطفا فيما مضى، ولا فيما يقارنه؟ فالجواب: إن القوم إذا كلفوا أن يقتل بعضهم بعضا، فكل واحد منهم يقصد قتل غيره، ويجوز أن يبقى بعده (1) فيكون القتل لطفا له فيما بعد، ولو كان بمقدار زمان يفعل فيه واجبا، أو يمتنع عن قبيح. وهذا (2) كما تقول في عباداتنا بقتال المشركين، وإن الله تعبدنا بأن نقاتل حتى نقتل أو نقتل، ومدحنا على ذلك. وكذلك روى أهل السير أن الذين عبدوا العجل تعبدوا بأن يصبروا على القتل، حتى يقتل بعضهم بعضا، فكان القتل شهادة لمن قتل، وتوبة لمن بقي. وإنما تكون شبهة لو أمروا بأن يقتلوا نفوسهم بأيديهم، ولو صح ذلك لم يمتنع أن يكونوا أمروا بأن يفعلوا بنفوسهم الجراح التي تفضي إلى الموت، وإن لم يزل معها العقل فينافي التكليف.
وأما على القول الآخر إنهم أمروا بالاستسلام للقتل والصبر عليه، فلا مسألة، لأنهم ما أمروا بقتل نفوسهم، فعلى هذا يكون قتلهم حسنا، لأنه لو كان قبيحا لما أمروا بالاستسلام له، ولذلك نقول: لا يجوز أن يتعبد نبي، ولا إمام، بأن يستسلم للقتل مع قدرته على الدفع عن نفسه، فلا يدفعه، لأن في ذلك استسلاما للقبيح مع القدرة على دفعه، وذلك لا يجوز، وإنما كان يقع قتل الأنبياء والأئمة عليهم السلام، على وجه الظلم، وارتفاع التمكن من المنع، غير أنه لا يمتنع من أن يتعبد بالصبر على الدفاع، وتحمل المشقة في ذلك، وان قتله غيره ظلما. والقتل، وإن كان قبيحا بحكم العقل، فهو مما يجوز تغيره بأن يصير حسنا، لأنه جار مجرى سائر الآلام، وليس يجري ذلك مجرى الجهل والكذب، في أنه لا يصير حسنا قط.