وقوله " فأما الذين آمنوا " أي: صدقوا محمدا والقرآن، وقبلوا الاسلام " فيعلمون أنه الحق من ربهم " مدحهم الله تعالى بأنهم تدبروا حتى علموا أنه من ربهم، وأن المثل وقع في حقه " وأما الذين كفروا " بالقرآن " فيقولون " أي:
فلاعراضهم عن طريق الاستدلال، وإنكارهم الحق، قالوا " ماذا أراد الله بهذا مثلا " أي: ماذا أراد الله بهذا المثل؟ فحذف الألف واللام. وقوله (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا " فيه وجهان أحدهما: حكي عن الفراء أنه قال: إنه حكاية عمن قال ماذا أراد الله بهذا مثلا، " يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا "، أي: يضل به قوم، ويهتدي به قوم. ثم قال الله تعالى " وما يضل به إلا الفاسقين " فبين تعالى أنه لا يضل إلا فاسقا ضالا، وهذا وجه حسن. والآخر: إنه كلامه تعالى ابتداء وكلاهما محتمل، وإذا كان محمولا على هذا فمعنى قوله " يضل به كثيرا " أن الكفار يكذبون به، وينكرونه، ويقولون ليس هو من عند الله، فيضلون بسببه، وإذا حصل الضلال بسببه أضيف إليه وقوله " ويهدي به كثيرا " يعني الذين آمنوا به وصدقوه. وقالوا هذا في موضعه، فلما حصلت الهداية بسببه، أضيف إليه. فمعنى الإضلال على هذا تشديد الامتحان الذي يكون عنده الضلال، وذلك بأن ضرب (1) لهم الأمثال، لأن المحنة إذا اشتدت على الممتحن، فضل عندها، سميت إضلالا. وإذا سهلت فاهتدى، سميت هداية.
فالمعنى: إن الله تعالى يمتحن بهذه الأمثال عباده، فيضل بها قوم كثير، ويهتدي بها قوم كثير، ومثله قوله: (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) أي: ضلوا عندها. وهذا كما يقال للرجل إذا أدخل الفضة النار لينظر فسادها من صلاحها، فظهر فسادها، أفسدت فضتك، وهو لم يفعل فيها الفساد، وإنما يراد أن فسادها ظهر عند محنته. وقريب من ذلك قولهم: فلان أضل ناقته، ولا يريدون أنه أراد أن يضل، وإنما يريدون ضلت منه لا من غيره. وقولهم: أفسدت فلانة فلانا، وأذهبت عقله، وهي ربما لم تعرفه، ولكن لما ذهب عقله، وفسد من أجلها، أضيف الفساد إليها.
وقد يكون الإضلال بمعنى التخلية على جهة العقوبة، وترك المنع بالقهر، ومنع الألطاف التي يفعل بالمؤمنين، جزاء على إيمانهم. وهذا كما يقال لمن لا يصلح سيفه: أفسدت سيفك، أريد به أنك تحدث فيه الإصلاح في كل وقت بالصقل والاحداد. وقد يكون (2) الإضلال بمعنى التسمية بالضلال والحكم به، كما يقال