تكن مستفيضة في العصر الأول، أو نقل عن الصحابة والتابعين خلاف في موضوعها، فعلم بذلك أنها ليست من التشريع العام، الذي جرى عليه عمل النبي وأصحابه، وليست مما أمر النبي أن يبلغ الشاهد فيه الغائب، بل كانت مما يرد كثيرا في استفتاء مستفت عرضت له المسألة فسأل عنها فأجيب، ولعله لو لم يسأل لكان في سعة من العمل باجتهاده فيها، ولكان خيرا له وللناس، إذ لو كانت من مهمات الدين التي أراد الله تكليف عباده إياها، لبينها لهم من غير سؤال، فإن الله تعالى أعلم بما هو خير لهم (1).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره كثرة السؤال ونهى عنها لئلا تكون سببا لكثرة التكاليف، فتعجز الأمة عن القيام بها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم " دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "، رواه الشيخان ورواه الدارقطني من وجه آخر، وقال فنزل قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم " الآية.
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله فرض فرائض فلا تعتدوها، وحد حدودا فلا تقربوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها "، رواه الدارقطني والنووي في الأربعين.
وفوق كل هذا قول الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا ". ومن الجهل الفاضح والجناية على الدين أن نهدم هذه القواعد والأصول العظيمة بأقيسة من ظنون الرأي والقياس.
ولقد ثبت أن النبي كان يجيب كل مستفت بما يناسب حاله، وأن بعض فتاواه كانت رخصا خاصة أو عامة، ومن ذلك أنه رخص لعقبة بن عامر ولأبي بردة بن نيار بأن يضحي بالجذع (أو العتود) من المعز وهو ما يرعى وقوي وأتى عليه