مستحل الخمر، قال: وكيف نكفر من خالف الاجماع، ونحن لا نكفر من يرد أصله، وإنما نبدعه. وأول كلام الأصحاب على ماذا صدق المجمعين على أن تحريم الخمر ثبت شرعا ثم حاله فإنه رد للشرع، حكاه عنه الرافعي. ثم قال: وهذا إن صح فليجر في سائر ما حصل الاجماع على افتراضه فنفاه، أو تحريمه فأثبته، وأجاب عنه الزنجاني بأن مستحل الخمر لا نكفره لأنه خالف الاجماع فقط، بل لأنه خالف ما ثبت ضرورة أنه من دين محمد (ص) والاجماع والنص عليه. وشمل قول المصنف (كل شراب أسكر كثيره حرم) هو و (قليله) جمع الأشربة من نقيع التمر والزبيب وغيرهما لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنه (ص) قال كل شراب أسكر فهو حرام. وروى مسلم خبر كل مسكر خمر، وكل خمر حرام. وروى النسائي بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص، أنه (ص) قال: أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره، وصحح الترمذي: ما أسكر كثيره قليله حرام. وخالف أبو حنيفة في القدر الذي لا يسكر من نقيع التمر والزبيب وغيره، واستند لأحاديث معلومة بين الحفاظ، وأيضا أحاديث التحريم متأخرة فوجب العمل بها، وإنما حرم القليل (وحد شاربه) وإن كان لا يسكر حسما لمادة الفساد كما حرم تقبيل الأجنبية والخلوة بها لافضائه إلى الوطئ المحرم ولحديث رواه الحاكم: من شرب الخمر فاجلدوه وقيس به شرب النبيذ، ولو فرض شخص لا يسكره شرب الخمر حرم شربه للنجاسة لا للاسكار، ويحد أيضا كما قاله الدميري وغيره حسما للباب كمن شرب قدرا يؤثر فيه لا يسكر، ومن حد ثم شرب المسكر حال سكره في الشرب الأول حد ثانيا.
تنبيه: المراد بالشارب المتعاطي شربا كان أو غيره، سواء فيه المتفق على تحريمه والمختلف فيه، وسواء جامدة ومائعه مطبوخه ونيئه، وسواء أتناوله معتقدا تحريمه أو إباحته على المذهب لضعف أدلة الإباحة كما مر. وخرج بالشراب النبات، قال الدميري: كالحشيشة التي تأكلها الحرافيش، ونقل الشيخان في باب الأطعمة عن الروياني إن أكلها حرام ولا حد فيها. وقال الغزالي في القواعد: يجب على آكلها التعزير والزجر دون الحد، ولا تبطل بحملها الصلاة. وقال ابن تيمية: إن الحشيشة أول ما ظهرت في آخر المائة السادسة من الهجرة حين ظهرت دولة التتار، وهي من أعظم المنكر وشر من الخمر في بعض الوجوه لأنها تورث نشوة ولذة وطربا كالخمر ويصعب الفطام عنها أكثر من الخمر، وقد أخطأ القائل فيها:
حرموها من غير عقل ونقل وحرام تحريم غير الحرام وكل ما يزيل العقل من غير الأشربة من نحو بنج لا حد فيه كالحشيشة فإنه لا يلذ ولا يطرب ولا يدعو قليله إلى كثيره بل فيه التعزير، ولا ترد الخمرة المعقودة والحشيش المذاب نظرا لأصلها، وبالمسكر غيره، ولكن يكره من غير المسكر المنصف وهو ما يعمل من تمر ورطب، والخليط وهو ما يعمل من بسر ورطب، لأن الاسكار يسرع إلى ذلك بسبب الخلط قبل أن يتغير فيظن الشارب أنه ليس بمسكر ويكون مسكرا، ويشترط كون شاربه مكلفا ملتزما للأحكام مختارا عالما بأن ما شربه مسكر من غير ضرورة. ومحترز هذه القيود يؤخذ من قوله (إلا صبيا ومجنونا) لرفع القلم عنهما (وحربيا) لعدم التزامه (وذميا) لأنه لا يلتزم بالذمة ما لا يعتقده إلا الأحكام المتعلقة بالعباد (وموجرا) أي مصبوبا في حلقه قهرا (وكذا مكره على شربه) أي المسكر (على المذهب) لحديث: وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ويقابل المذهب طريقة حاكيه لوجهين.
تنبيه: ظاهر قوله إلا صبيا وما بعده أنه مستثنى من التحريم ووجوب الحد، لكن الأصحاب إنما ذكروه في الحد وعدمه. نعم تعرضوا للحل بالنسبة إلى الاكراه والصحيح الحل، وبه جزم الرافعي في الجراح، ونص الشافعي في البويطي على أن عليه أن يتقايأه، وقيل يجب، وقيل يسن، والأول أوجه. (ومن جهل كونها) أي الخمر (خمرا)