ليس يمتنع أن يريد الله تعالى بإنزاله الحكم بيان حكم السبب وحكم غيره عند وجود هذا السبب كما ينزل حكما عاما من غير سبب تقدم فإذا ليس في نزوله على سبب ما يوجب الاقتصار به عليه
تحقيق القول في نسبة المذاهب السابقة.
ومن خلال ما سبق يتبين مذهب احمد بوضوح الا ان النقل عن الشافعي وأبي حنيفة قد دخله الاضطراب.
والصحيح الذي نراه ان مذهب أبي حنيفة القول بعموم اللفظ وذلك بالرجوع إلى ما نقله الأحناف في كتبهم ومن ذلك ما نقله الجصاص آنفا عن أبي حنيفة وكذلك نقل في فتح الغفار وتيسير التحرير وكتب غير الحنفية كحاشية العطار على جمع الجوامع والمستصفى والمسودة كما سنبين ذلك من ثبت المراجع.
أما النقل عن الشافعي فقد نبين مما سبق اضطراب القول فيه والذي نميل إليه بعد استقصاء الكلام في ذلك أن مذهب الشافعي قصره على السبب.
وقد وضح ذلك مما نقله إمام الحرمين مشيرا في عبارته إلى ورود الرأيين عن الشافعي وانه يرجح ان قول الشافعي هو قصره على السبب.
ونظرا لدقة ذلك فنحن ننقل نص إمام الرمين في البرهان حيث يقول: (اختلف الأصوليون في أن الصيغة هل يتعدى سببها في اقتضاء العموم أم يتضمن ورودها على السبب اختصاصها به، فالذي صح عندنا من مذهب الشافعي اختصاصها به وعلى هذا يدل قوله في قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه الا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير) الآية.
قال رضي الله عنه: كان الكفار يحلون الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وكانوا يتحرجون ن كثير من المباحات في الشرع فكانت سجيتهم تخالف وضع الشرع وتحاده فنزلت هذه الآية مسبوقة الورود بذكر سجيتهم في البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي والموقوذة وأكيلة السبع، وكان الغرض منها استبانة كونهم على مضادة الحق ومحادة الصدق حتى كأنه قال تعالى لا حرام إلا لما حللتموه والغرض الرد عليهم... الخ) واستفاد إمام الحرمين من هذا ان مذهب الشافعي القول بقصره على السبب.
فراجع البرهان مخطوط دار الكتب ١٨ أصول ورقة ٩٧ وعليه فالترجيح على ما ذكره إمام الحرمين انه مذهب الشافعي.
المذهب الثالث: الوقف حكاه القاضي في التقريب ولا وجه له لان الأدلة هما لم تتوازن حتى يقتضى ذلك التوقف.
المذهب الرابع:
التفصيل بين ان يكون السبب هو سؤال سائل فيختص به وبين ان يكون السبب مجرد وقوع حادثة كان ذلك القول العام واردا عند حدوثها فلا يختص بها كذا حكاه عبد العزيز في شرح البزودي.
المذهب الخامس:
أنه إن عارض هذا العام الوارد على سبب عموم اخر خرج ابتداء بلا سبب فإنه يقصر على سببه وان لم يعارضه فالعبرة بعمومه، قال الأستاذ أبو منصور هذا هو الصحيح.
ونحن مع الشوكاني في أن هذا لا يصلح ان يكون مذهبا مستقلا فان هذا العام الخارج ابتداء من غير سبب إذا صلح للدلالة فهو دليل خارج يوجب القصر ولا خلاف في ذلك على المذاهب كلها.
والذي نرجحه من هذه المذاهب القول بعموم اللفظ فقد ورد في الشرع ألفاظ كثيرة حملها المفسرون والمجتهدون ومن إليهم على عمومها وطولبنا بها شرعا من قبل الله عز وجل، ونرى أن قصره على السبب لا يكون الا بدليل فان ورد فمسلم والا فالعبرة بعموم اللفظ، ولا قصر على سبب يعطل كثيرا من الاحكام، واستدلال الجصاص لهذا المذهب نعتبره من جيد الأدلة التي نقل بعض المتأخرين بعضا منها.
وقد رد الغزالي في المستصفى بعض ما قد يثار على هذا المذهب من شبه وجعلها ثلاثا فقال:
الشبهة الأولى: انه لو لم يكن للسبب تأثير والنظر إلى اللفظ خاصة فينبغي ان يجوز اخراج السبب بحكم التخصيص عن عموما المسميات كما لو لم يرد على سبب. قال الغزالي: لا خلاف في أن كلامه بيان للواقعة لكن الكلام في أنه بيان له أوله ولغيره واللفظ يعمه ويعم غيره وتناوله مقطوع به وتناوله لغيره ظاهر فلا يجوز ان يسأل عن شئ فيجيب عن غيره، نعم يجوز ان يجب عنه وعن غيره ويجوز أيضا ان يجيب عن غيره بما ينبه على محل السؤال كما قال لعمر: أرأيت لو تمضمضت وقد سأله عن القبلة وقال للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته.
الشبهة الثانية: انه لو لم يكن للسبب مدخل لما نقله الراوي إذ لا فائدة فيه قلنا فائدته معرفة أسباب التنزيل والسير والقصص واتساع علم الشريعة.
الشبهة الثالثة: انه لولا أن المراد البيان السبب لما اخر البيان إلى وقوع الواقعة فان الغرض إذا كان تمهيد قاعدة عامة فلم اخرها إلى وقوع الواقعة. قال الغزالي: ولم قلتم لا فائدة في تأخيره والله تعالى اعلم بفائدته ولم طلبتم لافعال الله فائدة بل لله تعالى ان ينشئ التكليف في أي وقت شاء ولا يسئل عما يفعل.
واستقصاء الأدلة يطول ونحيل على مظانها فانظر فيما ذكرناه من المذاهب والأدلة إرشاد الفحول ١٣٤ والمستصفى 2 / 60 والمسودة 130 وتيسير التحرير 1 / 366 وفتح الغفار 2 / 59 وروضة الناظر 122 والأشباه والنظائر 135 وحاشية العطار على جمع الجوامع 2 / 73 والتلويح 1 / 273، والفتاوى لابن تيمية 31 / 28، 29 والبرهان لإمام الحرمين وفيه ردود على مذهب أبي حنيفة فراجعها مخطوط دار الكتب 18 أصول ورقة 96 وما بعدها.