قال تعالى جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما (1) وذلك في الوالدين المشركين ولم يمنع كون أول الخطاب في الفريقين ومثله كثير في القرآن والسنن (2)
(١) الآية ١٥ من سورة لقمان.
(٢) ذكر الجصاص مذهب الحنفية في هذه المسألة ونحن نحرر مذهبهم ثم نسوق بقية المذاهب استيفاء للموضوع مرجحين ما نراه بالدليل:
المذهب الأول:
ذهب أبو حنيفة وجمهور أصحابه إلى عوده إلى الجملة الأخيرة إلا أن يقوم الدليل على التعميم - كما ذكره الجصاص سابقا - واختاره الفخر الرازي وقال الأصفهاني في القواعد إنه الأشبه ونقله صاحب المعتمد عن الظاهرية وحكي عن أبي عبد الله البصري وأبي الحسن الكرخي كما نقله الجصاص عن الأخير - وإليه ذهب أبو علي الفارسي كما حكاه عنه الكيا الطبري وابن برهان.
المذهب الثاني:
ذهب الإمام الشافعي إلى أن الاستثناء الوردة بعد جمل متعاطفة يعود إلى الجميع ما يخصه دليل، وقد نسب ابن القصار هذا المذهب إلى مالك وكذلك ذكره في تنقيح الفصول في اختصار المحصول ٢٤٩، وقال الزركشي هو الظاهر من مذاهب أصحاب مالك ونسبه صاحب المصادر إلى القاضي عبد الجبار وحكاه القاضي أبو بكر إلى الحنابلة، قال: ونقلوه عن نص أحمد وهو كذلك في المسودة ١٥٦. ورجوعه للجميع عند الشافعية بشروط ذكرها في الإبهاج.
أحدها: أن تكون الجمل معطوفة.
الثاني: أن تكون العطف بالواو الجامعة، فأما إذا كان بثم اختص بالأخيرة ذكره الآمدي، قال الأصفهاني: ولم أر من تقدمه به، قال السبكي وقد تقدمه إمام الحرمين كما نص عليه في النهاية، وفي مختصر له في أصول الفقه ونقل الرافعي في كتاب الوقف عنه.
الثالث: نقله الرافعي عن رأي إمام الحرمين أيضا ألا يتخلل بين الجملتين كلام طويل فإن تخلل اختص بالآخرة، قال الرافعي: كما لو قال: وقفت على أولادي على أن من مات منهم وأعقب فنصيبه بين أولاده للذكر مثل حظ الأنثيين وإن لم يعقب فنصيبه للذين في درجته فإذا انقرضوا فهو مصروف إلى إخوتي إلا أن يفسق واحد منهم فيختص الاستثناء بالإخوة. الإبهاج ٢ / ٩٥.
المذهب الثالث:
ذهب جماعة إلى الوقف، حكاه صاحب المحصول عن القاضي أبي بكر والمرتضى من الشيعة، قال سليم الرازي في التقريب وهو مذهب الأشعرية واختاره إمام الحرمين الجويني والغزالي وفخر الدين الرازي، قال في المحصول بعد حكاية الوقف عن أبي بكر والمرتضى: إلا أن المرتضى توقف للاشتراك والقاضي لم يقطع بذلك. راجع إرشاد الفحول ١٥٠، وقال العضد في شرحه على مختصر المنتهى: وهذان أي الغزالي والمرتضى القائلان بالوقف موافقان للحنفية في الحكم وإن خالفا في المأخذ لأنه يرجع إلى الأخيرة فيثبت حكمه فيها ولا يثبت في غيرها كالحنفية، لكن هؤلاء لعدم ظهور تناولها والحنفية لظهور عدم تناولها ٢ / ١٩٢.
المذهب الرابع:
ونسبه الآمدي للقاضي عبد الجبار وأبي الحسن البصريوجماعة من المعتزلة ونسبه ابن الحاجب لأبي الحسين البصري.
إنه إن كان الشروع في الجملة الثانية إضرابا عن الأولى، ولا يضمر فيها شئ مما في الأولى فالاستثناء مخصص بالجملة الأخيرة، لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة الأولى مع استقلالها بنفسها إلى غيرها إلا وقد تم مقصوده منها وذلك على أربعة أوجه: الأول: أن تختلف الجملتان نوعا كما لو قال: أكرم بني تميم والنحاة البصريون إلا البغاددة، إذ الجملة الأولى أمر والثانية خبر.
الثاني: أن تتحدا نوعا وتختلفا اسما وحكما، كما لو قال: أكرم بني تميم واضرب ربيعة إلا الطوال، إذ هما أمران.
الثالث: أن تتحدا نوعا وتشتركا حكما لا اسما كما لو قال: سلم على بني تميم وسلم على بني ربيعة إلا الطوال.
الرابع: أن تتحدا نوعا وتشتركا اسما لا حكما ولا يسترك الحكمان في غرض من الأغراض، كما لو قال: سلم على بني تميم واستأجر بني تميم إلا الطوال وإن لم تكن الجملة الأخيرة مضربة عن الأولى بل لها نوع تعلق فالاستثناء راجع إلى الكل وذلك أربعة أقسام:
الأول: أن تتحد الجملتان نوعا واسما لا حكما غير أن الحكمين قد اشتركا في غرض واحد كما لو قال: أكرم بني تميم وسلم على بني تميم إلا الطوال لاشتراكهما في غرض الإعظام.
الثاني: أن تتحد الجملتان نوعا وتختلفا حكما، واسم الأولى مضمر في الثانية كما لو قال: أكرم بني تميم واستأجرهم وربيعة إلا الطوال.
الثالث: بالعكس من الذي قبله كما لو قال: أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال.
الرابع: أن يختلف نوع الجمل المتعاقبة إلا أنه قد أضمر في الجملة الأخيرة ما تقدم أو كان غرض الأحكام المختلفة فيها واحدا، كما في آية القذف فإن جملها مختلفة النوع من حيث أن قوله تعالى " فاجلدوهم " أمر وقوله " ولا تقبلوا شهادة لهم أبدا " نهي وقوله " وأولئك هم الفاسقون " خبر. غير أنها داخلة تحت القسم الثاني من جهة إضمار الاسم المتقدم فيها.
المذهب الخامس:
قال ابن فارس في كتاب فقه العربية إن دل الدليل على عوده إلى الجميع عاد كآية المحاربة وإن دل على منعه امتنع كآية القذف ولا يخفى أن هذا المذهب خارج عن محل النزاع فإنه لا خلاف إذا دل الدليل كان المعتمد ما دل عليه وإنما الخلاف حيث لم يدل الدليل على أحد الأمرين.
والذي نرجحه من هذه المذاهب مذهب الإمام الشافعي ومن تبعه فإن الجمل إذا تعاطفت كانت كالجملة الواحدة والأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في جميع المتعلقات كالحال والشرط والصفة والجار والمجرور والظرف، والاستثناء لا يختلف عنها وقد وافق أبو حنيفة على عود الشرط على الكل وما رد به أتباع أبي حنيفة من أن الشرط قد يتقدم أو يتأخر لا يقوى على رد الدليل فإن الاستثناء يفيد ما يفيده الشرط في المعنى.
وراجع إرشاد الفحول ١٥٠ والإبهاج ٢ / ٩٥ والأحكام للآمدي ٢ / ١٣١ وشرح تنقيح الفصول ٢٤٩ والمسودة ١٥٦ والمستصفى 2 / 174 والتلويح 2 / 303 ومنافع الدقائق 180 وتخريج الفروع للزنجاني 67.