قال: " إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، ولم تحل إلا ساعة من نهار، فلا يعضد شجرها، ولا يختلي خلالها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لبيوتنا وقبورنا، فقال إلا الإذخر ".
فإن قيل: هذه السورة مكية، وقوله: * (وأنت حل) * إخبار عن الحال، والواقعة التي ذكرتم إنما حدثت في آخر مدة هجرته إلى المدينة، فكيف الجمع بين الأمرين؟ قلنا: قد يكون اللفظ للحال والمعنى مستقبلا، كقوله تعالى: * (إنك ميت) * (الزمر: 30) وكما إذا قلت لمن تعده الإكرام والحباء: أنت مكرم محبو، وهذا من الله أحسن، لأن المستقبل عنده كالحاضر بسبب أنه لا يمنعه عن وعده مانع ورابعها: * (وأنت حل بهذا البلد) * أي وأنت غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه تعظيما منك لهذا البيت، لا كالمشركين الذين يرتكبون فيه الكفر بالله، وتكذيب الرسل وخامسها: أنه تعالى لما أقسم بهذا البلد دل ذلك على غاية فضل هذا البلد، ثم قال: * (وأنت حل بهذا البلد) * أي وأنت من حل هذه البلدة المعظمة المكرمة، وأهل هذا البلد يعرفون أصلك ونسبك وطهارتك وبراءتك طول عمرك من الأفعال القبيحة، وهذا هو المراد بقوله تعالى: * (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم) * (الجمعة: 2) وقال: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * (التوبة: 128) وقوله: * (فقد لبثت فيكم عمرا من قبله) * (يونس: 16) فيكون الغرض شرح منصب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكونه من هذا البلد. أما قوله: * (ووالد وما ولد) * فاعلم أن هذا معطوف على قوله: * (لا أقسم بهذا البلد) * وقوله: * (وأنت حل بهذا البلد) * معترض بين المعطوف والمعطوف عليه، وللمفسرين فيه وجوه أحدها: الولد آدم وما ولد ذريته، أقسم بهم إذ هم من أعجب خلق الله على وجه الأرض، لما فيهم من البيان والنطق والتدبير واستخراج العلوم وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه، وكل ما في الأرض مخلوق لهم وأمر الملائكة بالسجود لآدم وعلمه الأسماء كلها، وقد قال الله تعالى: * (ولقد كرمنا بني آدم) * (الإسراء: 70) فيكون القسم بجميع الآدميين صالحهم وطالحهم، لما ذكرنا من ظهور العجائب في هذه البنية والتركيب، وقيل: هو قسم بآدم والصالحين من أولاده، بناء على أن الطالحين كأنهم ليسوا من أولاده وكأنهم بهائم. كما قال: * (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) *، * (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) * وثانيها: أن الولد إبراهيم وإسماعيل وما ولد محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه أقسم بمكة وإبراهيم بانيها وإسماعيل ومحمد عليهما السلام سكانها، وفائدة التنكير الإبهام المستقل بالمدح والتعجب، وإنما قال: * (وما ولد) * ولم يقل ومن ولد، للفائدة الموجودة في قوله: * (والله أعلم بما وضعت) * (آل عمران: 36) أي بأي شيء وضعت يعني موضوعا عجيب الشأن وثالثها: الولد إبراهيم وما ولد جميع ولد إبراهيم بحيث يحتمل العرب والعجم. فإن جملة ولد إبراهيم هم سكان البقاع الفاضلة من أرض الشام ومصر، وبيت المقدس وأرض العرب ومنهم الروم لأنهم ولد عيصو بن إسحاق، ومنهم من خص ذلك بولد إبراهيم من العرب