بالمتناهي، فلا بد في مقابلة حاجة العبد التي لا نهاية لها من كمال الله الذي لا نهاية له، حتى يحصل الاستقرار، فثبت أن كل من آثر معرفة الله لا لشيء غير الله فهو غير مطمئن، وليست نفسه نفسا مطمئنة، أما من آثر معرفة الله لشيء سواه فنفسه هي النفس المطمئنة، وكل من كان كذلك كان أنسه بالله وشوقه إلى الله وبقاؤه بالله وكلامه مع الله، فلا جرم يخاطب عند مفارقته الدنيا بقوله: * (ارجعي إلى ربك راضية مرضية) * وهذا كلام لا ينتفع الإنسان به إلا إذا كان كاملا في القوة الفكرية الإلهية أو في التجريد والتفريد.
المسألة الثالثة: اعلم أن الله تعالى ذكر مطلق النفس في القرآن فقال: * (ونفس وما سواها) * (الشمس: 7) وقال: * (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) * (المائدة: 116) وقال: * (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قوة أعين) * (السجدة: 17) وتارة وصفها بكونها أمارة بالسوء، فقال: * (إن النفس لأمارة بالسوء) * (يوسف: 53) وتارة بكونها لوامة، فقال: * (بالنفس اللوامة) * (القيامة: 2) وتارة بكونها مطمئنة كما في هذه الآية. واعلم أن نفس ذاتك وحقيقتك وهي التي تشير إليها بقولك: (أنا) حين تخبر عن نفسك بقولك فعلت ورأيت وسمعت وغضبت واشتهيت وتخيلت وتذكرت، إلا أن المشار إليه بهذه الإشارة ليس هو هذه البنية لوجهين الأول: أن المشار إليه بقولك: (أنا) قد يكون معلوما حال ما تكون هذه البنية المخصوصة غير معلومة، والمعلوم غير ما هو غير معلوم والثاني: أن هذه البنية متبدلة الأجزاء والمشار إليه بقولك: (أنا) غير متبدل، فإني أعلم بالضرورة أني أنا الذي كنت موجودا قبل هذا اليوم بعشرين سنة، والمتبدل غير ما هو غير متبدل، فإذا ليست النفس عبارة عن هذه البنية، وتقول: قال قوم إن النفس ليست بجسم لأنا قد نعقل المشار إليه بقوله: (أنا) حال ما أكون غافلا عن الجسم الذي حقيقته المختص بالحيز الذاهب في الطول والعرض والعمق. والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم، وجواب المعارضة بالنفس مذكور في كتابنا المسمى بلباب الإشارات، وقال آخرون: بل هو جوهر جسماني لطيف صاف بعيد عن مشابهة الأجرام العنصرية نوراني سماوي مخالف بالماهية لهذه الأجسام السفلية، فإذا صارت مشابكة لهذا البدن الكثيف صار البدن حيا وإن فارقته صار البدن ميتا، وعلى التقدير الأول يكون وصفها بالمجئ والرجوع بمعنى التدبير وتركه، وعلى التقدير الثاني يكون ذلك الوصف حقيقا.
المسألة الرابعة: من القدماء من زعم أن النفوس أزلية، واحتجوا بهذه الآية وهي قوله: * (ارجعي إلى ربك) * فإن هذا إنما يقال: لما كان موجودا قبل هذا البدن.
واعلم أن هذا الكلام يتفرع على أن هذا الخطاب متى يوجد؟ وفيه وجهان الأول: أنه إنما يوجد عند الموت، وههنا تقوى حجة القائلين بتقدم الأرواح على الأجساد، إلا أنه لا يلزم من تقدمها عليها قدمها الثاني: أنه إنما يوجد عند البعث والقيامة، والمعنى: ارجعي إلى ثواب ربك، فادخلي في عبادي، أي ادخلي في الجسد الذي خرجت منه.