إلى مقدم البدن وهو التريبة، فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بالذكر، على أن كلامكم في كيفية تولد المني، وكيفية تولد الأعضاء من المني محض الوهم والظن الضعيف، وكلام الله تعالى أولى بالقبول.
المسألة الخامسة: قد بينا في مواضع من هذا الكتاب أن دلالة تولد الإنسان عن النطفة على وجود الصانع المختار من أظهر الدلائل، لوجوه أحدها: أن التركيبات العجيبة في بدن الإنسان أكثر، فيكون تولده عن المادة البسيطة أدل على القادر المختار وثانيها: أن اطلاع الإنسان على أحوال نفسه أكثر من اطلاعه على أحوال غيره، فلا جرم كانت هذه الدلالة أتم وثالثها: أن مشاهدة الإنسان لهذه الأحوال في أولاده وأولاد سائر الحيوانات دائمة، فكان الاستدلال به على الصانع المختار أقوى ورابعها: وهو أن الاستدلال بهذا الباب، كما أنه يدل قطعا على وجود الصانع المختار الحكيم، فكذلك يدل قطعا على صحة البعث والحشر والنشر، وذلك لأن حدوث الإنسان إنما كان بسبب اجتماع أجزاء كانت متفرقة في بدن الوالدين، بل في جميع العالم، فلما قدر الصانع على جمع تلك الأجزاء المتفرقة حتى خلق منها إنسانا سويا، وجب أن يقال: إنه بعد موته وتفرق أجزائه لا بد وأن يقدر الصانع على جمع تلك الأجزاء وجعلها خلقا سويا، كما كان أولا ولهذا السر لما بين تعالى دلالته على المبدأ، فرع عليه أيضا دلالته على صحة المعاد فقال:
* (إنه على رجعه لقادر) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الضمير في أنه للخالق مع أنه لم يتقدم ذكره، والسبب فيه وجهان الأول: دلالة خلق عليه، والمعنى أن ذلك الذي خلق قادر على رجعه الثاني: أنه وإن لم يتقدم ذكره لفظا، ولكن تقدم ذكر ما يدل عليه سبحانه، وقد تقرر في بدائة العقول أن القادر على هذه التصرفات، هو الله سبحانه وتعالى، فلما كان ذلك في غاية الظهور كان كالمذكور.
المسألة الثانية: الرجع مصدر رجعت الشيء إذا رددته، والكناية في قوله على رجعه إلى أي شيء ترجع؟ فيه وجهان أولهما: وهو الأقرب أنه راجع إلى الإنسان، والمعنى أن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء وجب أن يقدر بعد موته على رده حيا، وهو كقوله تعالى: * (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) * (يس: 79) وقوله: * (وهو أهون عليه) * (الروم: 27) وثانيهما: أن الضمير غير عائد إلى الإنسان، ثم قال مجاهد: قادر على أن يرد الماء في الإحليل، وقال عكرمة والضحاك: على أن يرد الماء في الصلب. وروي أيضا عن الضحاك أنه قادر على رد الإنسان ماء كما كان قبل، وقال مقاتل بن حيان: إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا، ومن الصبا