عبدته، وفي العدول عن مخاطبة القوم إلى حال نفسه حكمة أخرى ولطيفة ثانية: وهي أنه لو قال مالكم لا تعبدون الذي فطركم، لم يكن في البيان مثل قوله: * (ومالي) * لأنه لما قال: * (ومالي) * وأحد لا يخفى عليه حال نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد لأنه أعلم بحال نفسه فهو يبين عدم المانع، وأما لو قال: (مالكم) جاز أن يفهم منه أنه يطلب بيان العلة لكون غيره أعلم بحال نفسه، فإن قيل قال الله: * (مالكم لا ترجون لله وقارا) * (نوح: 13) نقول القائل هناك غير مدعو، وإنما هو داع وههنا الرجل مدعو إلى الإيمان فقال: ومالي لا أعبد وقد طلب مني ذلك الثانية: قوله: * (الذي فطرني) * إشارة إلى وجود المقتضى فإن قوله: * (ومالي) * إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضى، فقوله: * (الذي فطرني) * ينبئ عن الاقتضاء، فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه، ومنعم بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم شكر نعمته الثالثة: قدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضى مع أن المستحسن تقديم المقتضى حيث وجد المقتضى ولا مانع فيوجد لأن المقتضى لظهوره كان مستغنيا عن البيان رأسا فلا أقل من تقديم ما هو أولى بالبيان لوجود الحاجة إليه الرابعة: اختار من الآيات فطرة نفسه لأنه لما قال: * (ومالي لا أعبد) * بإسناد العبادة إلى نفسه اختار ما هو أقرب إلى إيجاب العبادة على نفسه، وبيان ذلك هو أن خالف عمرو يجب على زيد عبادته لأنه من خلق عمرا لا يكون إلا كامل القدرة شامل العلم واجب الوجود وهو مستحق للعبادة بالنسبة إلى كل مكلف لكن العبادة على زيد بخلق زيد أظهر إيجابا.
واعلم أن المشهور في قوله: * (فطرني) * خلقني اختراعا وابتداعا، والغريب فيه أن يقال: فطرني أي جعلني على الفطرة كما قال الله تعالى: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) * (الروم: 30) وعلى هذا فقوله: * (ومالي لا أعبد) * أي لم يوجد في مانع فأنا باق على فطرة ربي الفطرة كافية في الشهادة والعبادة فإن قيل فعلى هذا يختلف معنى الفطر في قوله: * (فاطر السماوات) * (الأنعام: 14) فنقول قد قيل بأن فاطر السماوات من الفطر الذي هو الشق فالمحذور لازم أو نقول المعنى فيهما واحد كأنه قال فطر المكلف على فطرته وفطر السماوات على فطرتها والأول من التفسير أظهر. وقوله تعالى: * (وإليه ترجعون) * إشارة إلى الخوف والرجاء كما قال: * (ادعوه خوفا وطمعا) * (الأعراف: 56) وذلك لأن من يكون إليه المرجع يخاف منه ويرجى وفيه أيضا معنى لطيف وهو أن العابد على أقسام ثلاثة ذكرناها مرارا فالأول: عابد يعبد الله، لكونه إلها مالكا سواء أنعم بعد ذلك أو لم ينعم، كالعبد الذي يجب عليه خدمة سيده سواء أحسن إليه أو أساء والثاني: عابد يعبد