الأول: أن دليل العقل من إسناد الأخس إلى الأفضل، فإن كان حكم العقل معتبرا في هذا الباب كان قولكم باطلا والوجه الثاني: أن نترك الاستدلال على فساد مذهبهم، بل نطالبهم بإثبات الدليل الدال على صحة مذهبهم فإذا لم يجدوا ذلك الدليل فضده يظهر أنه لم يوجد ما يدل على صحة قولهم وهذا هو المراد من قوله: * (أم لكم سلطان مبين * فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين) * فثبت بما ذكرنا أن القول الذي ذهبوا إليه لم يدل على صحته، لا الحس ولا الخبر ولا النظر، فكان المصير إليه باطلا قطعا، واعلم أنه تعالى لما طالبهم بما يدل على صحة مذهبهم دل ذلك على أن التقليد باطل، وأن الدين لا يصح إلا بالدليل.
المسألة الثانية: قوله: * (اصطفى البنات على البنين) * قراءة العامة بفتح الهمزة وقطعها من * (اصطفى) * ثم بحذف ألف الوصل وهو استفهام توبيخ وتقريع، كقوله تعالى: * (أم اتخذ مما يخلق بنات) * (الزخرف: 16) وقوله تعالى: * (أم له البنات ولكم البنون) * (الطور: 39) وقوله تعالى: * (ألكم الذكر وله الأنثى) * (النجم: 21) وكما أن هذه المواضع كلها استفهام فكذلك في هذه الآية، وقرأ نافع في بعض الروايات: * (لكاذبون * اصطفى) * موصولة بغير استفهام، وإذا ابتدأ كسر الهمزة على وجه الخبر والتقدير اصطفى البنات في زعمهم كقوله: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * (الدخان: 49) في زعمه واعتقاده.
ثم قال تعالى: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * واختلفوا في المراد بالجنة على وجوه الأول: قال مقاتل: أثبتوا نسبا بين الله تعالى وبين الملائكة حين زعموا أنهم بنات الله، وعلى هذا القول فالجنة: هم الملائكة سموا جنا لاجتنانهم عن الأبصار أو لأنهم حزان الجنة، وأقول هذا القول عندي مشكل، لأنه تعالى أبطل قولهم الملائكة بنات الله، ثم عطف عليه قوله: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * والعطف يقتضي كون المعطوف مغايرا للمعطوف عليه، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية غير ما تقدم الثاني: قال: مجاهد قالت: كفار قريش الملائكة بنات الله، فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: سروات الجن، وهذا أيضا عندي بعيد لأن المصاهرة لا تسمى نسبا والثالث: روينا في تفسير قوله تعالى: * (وجعلوا لله شركاء الجن) * (الأنعام: 100) أن قوما من الزنادقة يقولون: الله وإبليس أخوان فالله: الخير الكريم وإبليس: هو الأخ الشرير الخسيس، فقوله تعالى: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * المراد منه هذا المذهب، وعندي أن هذا القول أقرب الأقاويل.
وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان واهرمن ثم قال تعالى: * (وقد علمت الجنة أنهم لمحضرون) * أي: قد علمت الجنة أن الذين قالوا: هذا القول محضرون النار ويعذبون وقيل المراد ولقد علمت الجنة أنهم سيحضرون في العذاب، فعلى القول الأول: الضمير عائد إلى قائل هذا القول، وعلى القول الثاني: عائد إلى الجنة أنفسهم، ثم إنه تعالى