فإنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد، فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ والثاني: أن المقصود من ذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى، يعني لما كانت الفاكهة حاضرة أبدا كان الأدام أولى بالحضور، والقول الأول أقرب إلى التحقيق، واعلم أنه تعالى لما ذكر الأكل بين أن ذلك الأكل حاصل مع الإكرام والتعظيم فقال: * (وهم مكرمون) * لأن الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم.
ولما ذكر تعالى مأكولهم وصف تعالى مساكنهم فقال: * (في جنات النعيم * على سرر متقابلين) * ومعناه أنه لا كلفة عليهم في التلاقي للأنس والتخاطب، وفي بعض الأخبار أنهم إذا أرادوا القرب سار السرير تحتهم، ولا يجوز أن يكونوا متقابلين إلا مع حصول الخواطر والسرائر ولن يكونوا كذلك إلا مع الفسحة والسعة، ولا يجوز أن يسمع بعضهم خطاب بعض ويراه على بعد إلا بأن يقوي الله أبصارهم وأسماعهم وأصواتهم، ولما شرح الله صفة المأكل والمسكن ذكر بعده صفة الشرب فقال: * (يطاف عليهم بكأس من معين) * يقال للزجاجة التي فيها الخمر كأس وتسمى الخمرة نفسها كأسا قال: وكأس شرت على لذة * وأخرى تداويت منها بها وعن الأخفش: كل كأس في القرآن فهي الخمر، وقوله: * (من معين) * أي من شراب معين، أو من نهر معين، المعين مأخوذ من عين الماء أي يخرج من العيون كما يخرج الماء وسمي معينا لظهوره يقال عان الماء إذا ظهر جاريا، قاله ثعلب فهو مفعول من العين نحو مبيع ومكيل، وقيل سمي معينا لأنه يجري ظاهر العين، ويجوز أن يكون فعيلا من المعين وهو الماء الشديد الجري ومنه أمعن في المسير إذا اشتد فيه، وقوله: * (بيضاء) * صفة للخمر، قال الأخفش، خمر الجنة أشد بياضا من اللبن، وقوله: * (لذة) * فيه وجوه أحدها: أنها وصفت باللذة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال فلان جود وكرم إذا أرادوا المبالغة في وصفه بهاتين الصفتين وثانيها: قال الزجاج أي ذات لذة فعلى هذا حذف المضاف وثالثها: قال الليث: اللذ واللذيذ يجريان مجرى واحدا في النعت ويقال شراب لذ ولذيذ قال تعالى: * (بيضاء لذة للشاربين) * وقال تعالى: * (من خمر لذة للشاربين) * (محمد: 15) ولذلك سمي النوم لذا لاستلذاذه، وعلى هذا لذة بمعنى لذيذة، والأقرب من هذه الوجوه الأول.
ثم قال تعالى: * (لا فيها غول) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: قال الفراء العرب تقول ليس فيها غيلة وغائلة وغول سواء، وقال أبو عبيدة الغول أن يغتال عقولهم، وأنشد قول مطيع بن إياس: وما زالت الكأس تغتالهم * وتذهب بالأول الأول وقال الليث: الغول الصداع والمعنى ليس فيها صداع كما في خمر الدنيا، قال الواحدي رحمه الله وحقيقته الإهلاك، يقال غاله غولا أي أهلكه، والغول والغائل المهلك، ثم سمي الصداع غولا لأنه يؤدي إلى الهلاك.
ثم قال تعالى: * (ولا هم عنها ينزفون) * وقرئ بكسر الزاي قال الفراء من كسر الزاي فله معنيان يقال أنزف الرجل إذا نفدت خمرته، وأنزف إذا ذهب عقله من السكر ومن فتح الزاي فمعناه