بأن كلمة من كتاب الله لغو لا فائدة فيها مشكل صعب، وعلى هذا القول ففي تأويل الآية وجهان: الأول: أن يكون التقدير: أي شيء منعك عن ترك السجود؟! ويكون هذا الاستفهام على سبيل الإنكار ومعناه: أنه ما منعك عن ترك السجود؟! كقول القائل لمن ضربه ظلما: ما الذي منعك من ضربي، أدينك، أم عقلك، أم حياؤك؟! والمعنى: أنه لم يوجد أحد هذه الأمور، وما امتنعت من ضربي. الثاني: قال القاضي: ذكر الله المنع وأراد الداعي فكأنه قال: ما دعاك إلى أن لا تسجد؟! لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة عظيمة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها.
المسألة الثالثة: احتج العلماء بهذه الآية على أن صيغة الأمر تفيد الوجوب، فقالوا: إنه تعالى ذم إبليس بهذه الآية على ترك ما أمر به ولو لم يفد الأمر الوجوب لما كان مجرد ترك المأمور به موجبا للذم.
فإن قالوا: هب أن هذه الآية تدل على أن ذلك الأمر كان يفيد الوجوب، فلعل تلك الصيغة في ذلك الأمر كانت تفيد الوجوب. فلم قلتم إن جميع الصيغ يجب أن تكون كذلك؟
قلنا: قوله تعالى: * (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) * يفيد تعليل ذلك الذم بمجرد ترك الأمر، لأن قوله: * (إذ أمرتك) * مذكور في معرض التعليل، والمذكور في قوله: * (إذ أمرتك) * هو الأمر من حيث أنه أمر لا كونه أمرا مخصوصا في صورة مخصوصة، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون ترك الأمر من حيث أنه أمر موجبا للذم، وذلك يفيد أن كل أمر فإنه يقتضي الوجوب وهو المطلوب.
المسألة الرابعة: احتج من زعم أن الأمر يفيد الفور بهذه الآية قال: إنه تعالى ذم إبليس على ترك السجود في الحال، ولو كان الأمر لا يفيد الفور لما استوجب هذا الذم بترك السجود في الحال.
المسألة الخامسة: اعلم أن قوله تعالى: * (ما منعك ألا تسجد) * طلب الداعي الذي دعاه إلى ترك السجود، فحكى تعالى عن إبليس ذكر ذلك الداعي، وهو أنه قال: * (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) * ومعناه: أن إبليس قال إنما لم أسجد لآدم، لأني خير منه، ومن كان خيرا من غيره فإنه لا يجوز أمر ذلك الأكمل بالسجود لذلك الأدون! ثم بين المقدمة الأولى وهو قوله: * (أنا خير منه) * بأن قال: * (خلقتني من نار وخلقته من طين) * والنار أفضل من الطين والمخلوق من الأفضل أفضل، فوجب كون إبليس خيرا من آدم. أما بيان أن النار أفضل من الطين، فلأن النار مشرق علوي لطيف خفيف