والقول الثاني: في هذه الآية أنه تعالى حكى عن الشيطان ذكر هذه الوجوه الأربعة، والغرض منه أنه يبالغ في إلقاء الوسوسة، ولا يقصر في وجه من الوجوه الممكنة البتة. وتقدير الآية: ثم لآتينهم من جميع الجهات الممكنة بجميع الاعتبارات الممكنة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام " فقال له: تدع دين آبائك فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال له: تدع ديارك وتتغرب فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له: تقاتل فتقتل، ويقسم مالك، وتنكح امرأتك، فعصاه فقاتل، وهذا الخبر يدل على أن الشيطان لا يترك جهة من جهات الوسوسة إلا ويلقيها في القلب.
فإن قيل: فلم لم يذكر مع الجهات الأربع من فوقهم ومن تحتهم.
قلنا: أما في التحقيق فقد ذكرنا أن القوى التي يتولد منها ما يوجب تفويت السعادات الروحانية، فهي موضوعة في هذه الجوانب الأربعة من البدن. وأما في الظاهر: فيروى أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر، فقالوا: يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع كونه مستوليا عليه من هذه الجهات الأربع، فأوحى الله تعالى إليهم أنه بقي للإنسان جهتان: الفوق والتحت، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدعاء على سبيل الخضوع، أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة. والله أعلم.
المسألة الثانية: أنه قال: * (من بين أيديهم ومن خلفهم) * فذكر هاتين الجهتين بكلمة * (من) *.
ثم قال: * (وعن أيمانهم وعن شمائلهم) * فذكر هاتين الجهتين بكلمة * (عن) * ولا بد في هذا الفرق من فائدة. فنقول: إذا قال القائل جلس عن يمينه، معناه أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين غير ملتصق به. قال تعالى: * (عن اليمين وعن الشمال قعيد) * (ق: 17) فبين أنه حضر على هاتين الجهتين ملكان، ولم يحضر في القدام والخلف ملكان، والشيطان يتباعد عن الملك، فلهذا المعنى خص اليمين والشمال بكلمة * (عن) * لأجل أنها تفيد البعد والمباينة، وأيضا فقد ذكرنا أن المراد من قوله: * (من بين أيديهم ومن خلفهم) * الخيال، والوهم، والضرر الناشئ منهما هو حصول العقائد الباطلة، وذلك هو حصول الكفر، وقوله: * (وعن أيمانهم وعن شمائلهم) * الشهوة، والغضب، والضرر الناشئ منهما هو حصول الأعمال الشهوانية والغضبية، وذلك هو المعصية، ولا شك أن الضرر الحاصل من الكفر لازم، لأن عقابه دائم. أما الضرر الحاصل من المعصية فسهل لأنه عقابه منقطع، فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة * (عن) * تنبيها على أن هذين القسمين في اللزوم والاتصال دون القسم الأول. والله أعلم بمراده.