تثبت القوم في وضع صدقاتهم مواضعها لكان الكلام: وتثبتا من أنفسهم، لا وتثبيتا، ولكن معنى ذلك ما قلنا من أنه وتثبيت من أنفس القوم إياهم بصحة العزم واليقين بوعد الله تعالى ذكره.
فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك نظير قول الله عز وجل: * (وتبتل إليه تبتيلا) * ولم يقل: تبتلا؟ قيل: إن هذا مخالف لذلك، وذلك أن هذا إنما جاز أن يقال فيه: تبتيلا لظهور وتبتل إليه، فكان في ظهوره دلالة على متروك من الكلام الذي منه قيل: تبتيلا، وذلك أن المتروك هو: تبتل فيبتلك الله إليه تبتيلا، وقد تفعل العرب مثل ذلك أحيانا تخرج المصادر على غير ألفاظ الأفعال التي تقدمتها إذا كانت الأفعال المتقدمة تدل على ما أخرجت منه، كما قال عز وجل: * (والله أنبتكم من الأرض نباتا) * وقال:
* (فأنبتها نباتا حسنا) * والنبات: مصدر نبت، وإنما جاز ذلك لمجئ أنبت قبله، فدل على المتروك الذي منه قيل نباتا، والمعنى: والله أنبتكم فنبتم من الأرض نباتا. وليس قوله: * (وتثبيتا من أنفسهم) * كلاما يجوز أن يكون متوهما به أنه معدول عن بنائه. ومعنى الكلام: ويتثبتون في وضع الصدقات مواضعها، فيصرف إلى المعاني التي صرف إليها قوله: * (وتبتل إليه تبتيلا) * وما أشبه ذلك من المصادر المعدولة عن الأفعال التي هي ظاهرة قبلها.
وقال آخرون: معنى قوله: * (وتثبيتا من أنفسهم) * احتسابا من أنفسهم. ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وتثبيتا من أنفسهم) * يقول: احتسابا من أنفسهم.
وهذا القول أيضا بعيد المعنى من معنى التثبيت، لان التثبيت لا يعرف في شئ من الكلام بمعنى الاحتساب، إلا أن يكون أراد مفسره كذلك أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في تثبيتها أصحابها. فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام، فليس الاحتساب بمعنى حينئذ للتثبيت فيترجم عنه به.