وثانيها: أن يكون المعنى مثل الذين كفروا ومثلنا، أو مثل الذين كفروا ومثلك يا محمد، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء أي: كمثل الأنعام المنعوق بها، والناعق الراعي الذي يكلمها، وهي لا تعقل. فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأول. ومثله قوله سبحانه: (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر)، وأراد الحر والبرد، وقال أبو دؤيب:
عصيت إليها القلب، إني لأمرها * مطيع، فما أدري أرشد طلابها أراد أرشد أم غي، فاكتفى بذكر الرشد لوضوح الأمر، وهو قول الأخفش والزجاج. وهذا لأن في الآية تشبيه شيئين بشيئين: تشبيه الداعي إلى الإيمان بالراعي، وتشبيه المدعوين من الكفار بالأنعام. فحذف ما حذف للإيجاز، وأبقى في الأول ذكر المدعو، وفي الثاني ذكر الداعي. وفيما أبقى دليل على ما ألقى.
وثالثها: إن المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام، كمثل الراعي في دعائه الأنعام بتعال وما جرى مجراه من الكلام. فكما أن من دعا البهائم يعد جاهلا، فداعي الحجارة أشد جهلا منه، لأن البهائم تسمع الدعاء، وإن لم تفهم معناه.
والأصنام لا يحصل لها السماع أيضا، عن أبي القاسم البلخي، وغيره.
ورابعها: إن مثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام، وهي لا تعقل ولا تفهم، كمثل الذي ينعق دعاء ونداء بما لا يسمع صوته جملة، ويكون المثل مصروفا إلى غير الغنم، وما أشبهها مما يسمع، وإن لم يفهم. وعلى هذا الوجه ينتصب دعاء ونداء بينعق، وإلا ملغاة لتوكيد الكلام كما في قول الفرزدق:
هم القوم إلا حيث سلوا سيوفهم، * وضحوا بلحم من محل، ومحرم والمعنى هم القوم حيث سلوا سيوفهم.
وخامسها: أن يكون المعنى: ومثل الذين كفروا، كمثل الغنم الذي لا يفهم دعاء الناعق، فأضاف سبحانه المثل الثاني إلى الناعق، وهو في المعنى مضاف إلى المنعوق به، على مذهب العرب في القلب، نحو قولهم: طلعت الشعرى (1)، وانتصب العود على الحرباء. والمعنى انتصب الحرباء على العود، وأنشد الفراء: