قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون! وهناك غير ذلك أخبار كثيرة يرجع إليها في كتابي جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر وتقييد العلم للبغدادي وغيرهما. ولئن كان هناك بعض أحاديث رويت في الرخصة بكتابة الأحاديث إن أحاديث النهي أصح وأقوى، بله ما جرى عليه العمل في عهد الصحابة والتابعين.
وقد عقد الفقيه المحدث السيد رشيد رضا رحمه الله فصلا قيما في التعادل والترجيح بين روايات النهي وروايات الرخصة نأتي به هنا ليكون مقطع الحق في هذا الأمر. قال رحمه الله (1):
إن أصح ما ورد في المنع من كتابة الحديث ما رواه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه وابن عبد البر في كتاب العلم وغيرهم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا:
" لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن فمن كتب غير القرآن فليحمه ".
وإن أصح ما ورد في الإذن حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما مرفوعا:
" اكتبوا لأبي شاه " وهو لا يعارض حديث أبي سعيد وما في معناه على قاعدتنا التي مدارها على أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه مراد به ألا تتخذ دينا عاما كالقرآن، وذلك أن ما أمر بكتابته لأبي شاه هو خطبة خطبها صلى الله عليه يوم فتح مكة موضوعها تحريم مكة ولقطة الحرم، وهذا من بيانه صلى الله عليه وسلم للقرآن الذي صرح به يوم الفتح وصرح به في حجة الوداع وأمر بتبليغه - فهو خاص مستثنى من النهي العام. قد صرح البخاري في باب اللقطة من صحيحه بأن أبا شاه اليمني طلب أن تكتب له الخطبة المذكورة فأمر صلى الله عليه وسلم بإجابة طلبه.
ولو فرضنا أن بين أحاديث النهي عن الكتابة والإذن بها تعارضا يصح أن يكون به أحدها ناسخا للآخر، لكان لنا أن نستدل على كون النهي هو المتأخر بأمرين أحدهما استدلال من روى عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة ومنعها بالنهي عنها، وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وثانيهما عدم تدوين الصحابة الحديث ونشره، ولو دونوا ونشروا لتوافر ما دونوه.