وحجبه عن جميع الخلق سواهم فهذا هو معنى قوله عز وجل (أو من وراء حجاب) لان الكلام هو الذي كان محجوبا عن الناس.. وقد يقال أنه تعالى حجب عنهم موضع الكلام الذي أقام الكلام فيه فلم يكونوا يدرون من أين يسمعونه لان الكلام عرض لا يقوم إلا في جسم ولا يجوز أن يكون أراد تعالى بقوله (أو من وراء حجاب) أن الله تعالى كان (من وراء حجاب) يكلم عباده لان الحجاب لا يجوز إلا على الأجسام المحدودة.. قال وعنى بقوله (أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء) إرساله ملائكة بكتبه وكلامه إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ليبلغوا عنه ذلك عباده على سبيل إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وإنزاله سائر الكتب على أنبيائه عليه الصلاة والسلام فهذا ضرب من الكلام الذي يكلم الله تعالى عباده ويأمرهم فيه بطاعته وينهاهم عن معاصيه من غير أن يكلمهم على سبيل ما كلم به موسى عليه السلام وهذا الكلام هو خلاف الوحي الذي ذكره الله تعالى في أول الآية لأنه قد أفصح تعالى لهم في هذا الكلام بما أمرهم به ونهاهم عنه والوحي الذي ذكره تعالى في أول الآية إنما هو تنبيه وخاطر وليس إفصاح وهذا الذي ذكره أبو علي أيضا سديد والكلام محتمل لما ذكره.. ويمكن في الآية وجه آخر وهو أن يكون المراد بالحجاب البعد والخفاء ونفى الظهور وقد تستعمل العرب لفظ الحجاب فيما ذكرناه يقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه واستبطأ فطنته بيني وبينك حجاب وتقول للامر الذي تستبعده وتستصعب طريقه بيني وبين هذا الامر حجاب وموانع وسواتر وما جرى مجرى ذلك فيكون معنى الآية أنه تعالى لم يكلم البشر إلا وحيا بأن يخطر في قلوبهم أو بأن ينصب لهم أدلة تدلهم على ما يريده أو يكرهه منهم فيكون من حيث نصبه للدلالة على ذلك والارشاد إليه مخاطبا ومكلما للعباد بما يدل عليه وجعل تعالى هذا الخطاب من وراء حجاب من حيث لم يكن مسموعا كما يسمع الخاطر وقول الرسول ولا ظاهرا معلوما لكل من أدركه كما أن أقوال الرسل المؤدين عنه تعالى من الملائكة بهذه الصفة فصار الحجاب هناك كناية عن الخفاء وغيره مما يدل عليه الدلالة وليس لاحد أن يقول إن الذي يدل عليه الأجسام هو من صفاته تعالى وأحواله ومراده ولا يقال أنه تعالى متكلم لذاته وذلك أن غير ممتنع
(١١٦)