في حصول هذا المخلوق الشريف خصوصا مع انقطاعه وينوبه (ويشوبه) بالآلام المتضاعفة فلا بد وأن يكون الغرض شيئا آخر مما يتعلق بالمنافع الأخروية ولما كان ذلك النفع من أعظم المطالب وأنفس المقاصد لم يكن مبذولا لكل أحد بل إنما يحصل بالاستحقاق وذلك لا يكون إلا بالعمل في هذه الدار المسبوق بتحصيل كيفية العمل المشتمل عليه هذا العلم فكان ذلك من أعظم المنافع في هذا العلم والحاجة إليه ما يسر جدا لتحصيل هذا النفع والمخلص من العقاب الدائم. المقدمة الثانية: في مرتبة هذا العلم إعلم أن المعلوم (العلوم) قد يتقدم بعضها على بعض إما لتقدم موضوعاتها أو لتقدم غاياتها ولاشتمالها على مبادئ العلوم المتأخرة أو لأمور أخر ليس هذا موضع ذكرها والحق عندي أن مرتبة هذا العلم متأخرة عن غيره لا باعتبار الثالث وذلك لافتقاره إلى سائر العلوم واستغنائها عنه أما تأخره عن علم الكلام فلان هذا العلم مباحث (باحث) عن كيفية التكليف وهو لا شك مسبوق بالبحث عن معرفة التكليف والمكلف وأما تأخره عن علم أصول الفقه فظاهر لان هذا العلم ليس ضروريا بل لا بد فيه من الاستدلال وأصول الفقه متكفل ببيان كيفية ذلك الاستدلال فبهذا الاعتبار كان متأخرا عن علم المنطق المتكفل ببيان فساد الطريق وصحتها وأما اللغة والنحو والتصريف فلان مبادئ هذا العلم إنما هو القرآن والسنة وغيرهما ولا يشك في أن القرآن والسنة عربيان فوجب تقديم البحث عن اللغة والنحو والتصريف على البحث عن هذا العلم فهذه العلوم التي يحتاج هذا العلم إلى تقدم معرفتها. المقدمة الثالثة: في موضوع هذا العلم ومبادئه ومسائله، إعلم أن كل علم على الاطلاق لا بد أن يكون باحثا عن أمور لاحقة لغيرها وتسمى تلك الأمور مسائل ذلك العلم وذلك الغير موضوعه ولا بد له من مقدمات يتوقف الاستدلال عليها ومن تصورات للموضوع وأجزائه وجزئياته إن كانت ويسمى ذلك أجمع بالمبادئ ولما كان الفقه باحثا عن الوجوب والندب والإباحة والكراهة والتحريم والصحة والبطلان لا من حيث هي بل من حيث هي عوارض لأفعال المكلفين لا جرم كان موضوع هذا العلم هو أفعال المكلفين من حيث الاقصاء والتحير ومباديه هي المقدمات التي يتوقف عليها بذلك العلم كالقرآن والاخبار والاجماع والتصورات التي يتوقف عليها ذلك العلم ومسائله هي المطالب الجزئية التي يشتمل عليها علم الفقه. المقدمة الرابعة: في تحديد هذا العلم لا يمكن تحديد علم من العلوم إلا بالإضافة إلى متعلقه لدخول الإضافة فيه وكونها جزء منه الفقه في اللغة هو الفهم وأما في الاصطلاح فهو عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية الفرعية مستندا إلى الأدلة التفصيلية وقد بينا في أصول الفقه في شرح هذا الحد على الاستقصاء. المقدمة الخامسة: في أن تحصيل هذا العلم واجب يدل عليه المعقول والمنقول أما المعقول فهو أن معرفة التكليف واجب وإلا لزم تكليف ما لا يطاق ولا يتم إلا بتحصيل هذا العلم قطعا وما لا يتم إلا به يكون واجبا فيكون تحصيل هذا العلم واجبا.
وأما المنقول فقوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون). المقدمة السادسة:
في أن تحصيل هذا العلم واجب على الكفاية ويدل عليه ما تقدم من القرآن فإنه دل على وجوب التفقه على الطائفة من كل فرقة ولو كان واجبا على الأعيان لكان واجبا على كل فرقة ولان الأصل عدم الوجوب والدليل إنما يتضمن بالوجوب على الكفاية ولان الوجوب على الأعيان ضرر عظيم و هو منفي اتفاقا. المقدمة السابعة: إعلم أن الناس على أقسام ثلاثة بالنسبة إلى العلم، أحدها الذي هو الأصل والمستيقظ له والمطهر لكنوزه والدال على فوائده وكأنه الخالف لذلك العلم والمبتدع له وهذا القسم أشرف الأقسام وأعلاها. وثانيها: من كان من مرتبة دون هذه المرتبة وحظه من العلم أنقص من حظ الأول وكان سعيه وكده فيهم ما يرد عليه من العلوم المنقولة عن الأول ويحصل ما داره الأول ولهذا القسم أيضا شرف قاصر عن شرف الأول. وثالثها: من قصر عن هاتين المرتبتين ولم يقربا حد هذين العامين (العالمين) وهم الغالب في زماننا وهم في الحقيقة يقتسمون قسمين، الأول:
من تعاطى درجة العلم وهم المتجاهلون وغاية سعيهم الرد على أهل الحيف والتخطئة لهم وجبر نقصهم بذلك وهم الحشوية (و) من لم يسم نفسه إلى ذلك وهم الجاهلون وهم أشرف من أولى هذه المرتبة ولذلك أشار مولانا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه بقوله: " الناس ثلاثة عالم رباني و متعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العالم (العالم) ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق ". المقدمة الثامنة:
إنه قد يأتي في كتابنا هذا إطلاق لفظ الشيخ ونعني به الامام أبا جعفر محمد بن الحسن الطوسي قدس الله روحه والمفيد نريد منه الشيخ محمد بن محمد النعمان وبالشيخين هما وقد يأتي في بعض الاخبار أنه في الصحيح ونعني به ما كان رواية ثقات عدولا وفي بعضها في الحسن ونريد منه ما كان بعض رواته قد أثنى عليه الأصحاب وإن لم يصرحوا بلفظ التوثيق وفي بعضها في الموثق ونعني به ما كان بعض رواته من غير الامامية كالفطحية والواقفية وغيرهم إلا أن الأصحاب شهدوا بالتوقيف له. المقدمة التاسعة: لما رأينا أن الغالب على الناس في هذا الزمان الجهل وطاعة الشهوة والغضب والرفض لادراك المعاني القدسية وترك الوصول إلى أنفس المعارج العلوية واقتناهم برذائل الأخلاق واتصافهم بالاعتقادات الباطلة على الاطلاق والتشيع على من سمت عنه عن درجتهم وطلب نفسه الصعود عن منزلتهم حتى أتى في مدة عمرنا هذا وهو اثنان وثلاثون سنة لم يشاهد من طلاب الحق إلا من قل ومن العاضدين للصواب إلا من جل أحببنا إظهار شئ من فوائد هذا العلم عسى يحصل لبعض الناس مرتبة الاقتداء ويرغب في الاقتفاء ذلك من أشرف فوائد وضع هذا الكتاب لما فيه من السنة المقتدى بها الفائز صاحبها بالسهم المعلى من السعادة والتخلص من مراتب الشقاوة فشرعنا في عمل هذا الكتاب المحتوي على المسائل اللطيفة والمباحث الدقيقة الشريفة وإن كان أصحابنا المتقدمون وعلماؤنا السابقون رضوان الله عليهم قد أوضحوا سبيل كل خير و