وأما أن موسى عليه السلام مشهور بالحلم والوداعة، فهو لعمر الله رسول الله وكليمه وصفيه، معلم الكمال ومهذب البشر ومؤدبهم، العارف بمواقع الحلم ومواقع الحزم والشدة في ذات الله ووظيفة الرسالة وحكمة التبليغ والأنذار، وهو أجل شأنا وأعلى قدرا من أن يعتمد في كماله على مجرد الشهرة.
ولكن لا يتيسر الإذعان بذلك مع الإذعان بصحة في العهد القديم، فإنه قد قرف قدس موسى عليه السلام بما لا يصدر إلا من فظ غليظ القلب سئ الخلق سئ الأدب سئ المعرفة بالله، فنسب إلى موسى وحاشاه أنه لما أرسله الله إلى فرعون رد الرسالة بلسان خشن وكرر الرد مع احتجاج الله عليه ووعده له بالتأييد حتى حمي غضب الله عليه (خر 4، 10 - 15) وأنه قال الله:
لماذا أسأت إلى هذا الشعب (خر 55، 22) لماذا أسأت إلى عبدك (عد 11، 11) وتحكم على الله بالغفران لعابدي العجل، وقال لله: الآن إن غفرت لهم وإلا فامحني من كتابك (خر 32، 32).
ولما وعده الله بإشباع بني إسرائيل من اللحم رد على الله كالمستهزء بوعده المنكر لقدرته، فقال: ستمائة ألف ماش هو الشعب الذي أنا في وسطه، وأنت قد قلت أعطيهم لحما ليأكلوا شهرا من الزمان، أيذبح لهم بقر وغنم ليكفيهم؟ أم يجمع لهم سمك البحر ليكفيهم؟ فقال الرب: هل تقصر يد الرب (عد 11، 21، 23).
وقالت المزامير: إن موسى وحاشاه فرط بشفتيه (مز 106، 33)، وانظر الجزء الأول صحيفة (125 - 132)، أفيقول المتكلف: إن الحلم والوداعة والأدب لا تليق من موسى مع الله، كما تليق منه مع فرعون في مقام الدعوة والانذار.
ولعلك تسأل وتقول: لماذا لم تذكر التوراة شيئا من مكالمات موسى لفرعون في الوعظ والانذار الذي لا بد منه في هذا المقام، ولماذا أهملت ذكر المكالمات فيما أشرت إليه في أول الجواب؟ فنقول لك: إن التوراة الرائجة قد أبدلتها صروف الأيام عن مثل هذا بأشياء قد حكمنا فيها وجدانك فإن شئت جعلتها من حقائق العرفان وإن شئت جعلتها من خرافات الهذيان، وذلك أنها ذكرت كلام الله مع موسى في حوريب ومدين وإرساله إلى فرعون ووعده بالتأييد