ولو أنى أطعت القلم وأطلقت من عنانه، ليجري إلى مداه الذي يريده، لزادت صفحات الكتاب على ذلك كثيرا، ولكني كبحت من جماحه، ووقفت عند هذا الحد به.
ثم رأيت من التدبير أن أفرده في كتاب برأسه ليعم النفع به، والاستفادة منه، وإني أقدمه اليوم بعد أن أوفى من التحقيق على الغاية، وبلغ من الاستقصاء أقصى النهاية، وأصبح بلا مراء مرآة مجلوة تصور تاريخ هذا الصحابي المعروف تصويرا صادقا من يوم أن قدم على النبي صلى الله عليه وآله وهو بخيبر فقيرا معدما، إلى أن توفى في قصره المنيف بالعقيق غنيا مثريا.
فإذا أنت نظرت في هذه المرآة المصقولة تراءت لك شخصيته واضحة المعالم من جميع جهاتها، وانكشفت لك حياته في زمن النبي وخلفائه الأربعة، وماذا كان شأنه بين سائر الصحابة في هذه الفترة ونهى عمر له عن الرواية عن رسول الله وضربه بالدرة من أجل ذلك وإنذاره إياه بالنفي إلى بلاده إذا هو روى، ثم مصادرته لشطر أمواله لما آنس منه عدم أمانته في ولايته - وما كان بعد ذلك من إمعانه في الرواية بعد أن خلا له الجو بموت كبار الصحابة واختفاء درة عمر التي كانت تباشر ظهره عندما كان يروى - ولكثرة هذه الرواية على قلة زمن صحبته اتهموه في روايته حتى كان بذلك (أول راوية اتهم في الاسلام) - ثم تشيعه لنبي أمية بعد أن انتزعوا الحكم اغتصابا، وعطلوا حكم الشورى في الاسلام، وأصبحوا ملوكا في الأرض بيدهم الأمر والنهي والرفع والخفض، فكان من دعاتهم وأوليائهم، يناصرهم بلسانه ورواياته، وما ناله لقاء ذلك من نوالهم ورفدهم وأطايب أطعمتهم، وبخاصة (المضيرة) التي كانت من أفخر أطعمة معاوية حتى بلغ من نهمه وحبه لها، أن لقب بها، وظل هذا اللقب يلازمه ويعرف به على مد الزمن كما ستراه في كتابنا هذا ولذلك جعلناه عنوانا لهذا الكتاب.
ويشهد القارئ في تاريخه غير ذلك قصته العجيبة ذات الفصول الثلاثة الغريبة عندما حطب في حبل معاوية، وذلك فيما رواه من أحاديث (بسط الثوب، والوعاءين، والمزود).