حياة أبي هريرة بعد إسلامه في المدينة:
لما انصرف النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة بعد فتح خيبر رجع معه أبو هريرة فيمن رجعوا - كان الظن أن يتخذ سبيله وهو بالمدينة إلى السعي في مناكب الأرض ليأكل من رزق الله، إما بالصفق في الأسواق، أو بالزرع في الأرض، كما كان يفعل غيره. لكي يعيش عيشة كريمة، ولكنه تنكب طريق العمل واتخذ سبيله إلى مثابة ليس لمن يؤمها أي عمل إلا أن يتلقى ما تجود به نفوس المحسنين من فضلاتهم وصدقاتهم، التي سماها النبي أوساخا - فيطعم هو ومن معه من الذين أخلدوا إلى الخمول والكسل، شأن سكنة التكايا والخوانق، وقد فعل ذلك ليثبت بفعله ما أعلنه بقوله: من أنه خدم النبي لملء بطنه، ولو أنه آثر الأجدر بالرجال، والأخلق بالذين يحافظون على كرامتهم - أو لو أنه اتبع ما رواه هو عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله صلى الله عليه وآله:
والذي نفسي بيده لان يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره فيأكل - خير له من أن يأتي رجلا أغناه الله من فضله فيسأله، أعطاه أو منعه (1). لو أنه فعل ذلك لوجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة، ولعاش كريما، عيشة رغدا!
ولكنه اختار أن يسأل الناس فهذا يعطيه - وهذا يمنعه، كما صرح هو مرارا فيما ستقرؤه من بعد.
وانظر الفرق بينه وبين غيره مثل عبد الرحمن بن عوف، الذي آخى النبي بينه وبين سعد بن الربيع، وكان ذا غنى. فقال له سعد: أقاسمك مالي نصفين وأزوجك! فقال له عبد الرحمن بن عوف، بارك الله لك في أهلك ومالك. دلوني على السوق (2).
ومن يقرأ ما صرح به أبو هريرة مرارا عن نفسه، وما وصف من سوء حاله، يتبين له أن معيشته كانت ضنكا أيام إقامته بالمدينة في عهد النبي، حتى لقد بلغ من شدة بؤسه وفاقته، أن كان يصرع من الجوع، حتى وصف بعضهم هذا الصرع بالجنون.