باب القول في الحقيقة والمجاز (1) قال أبو بكر في لغة العرب الحقيقة والمجاز (2) فالحقيقة ما سمي به الشئ في أصل اللغة وموضوعها
(١) الحقيقة: فعلية من حق الشئ بمعنى ثبت والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة، وفعيل في الأصل قد يكون بمعنى الفاعل، وقد يكون بمعنى المفعول، فعلى التقدير الأول يكون معنى الحقيقة الثابتة، وعلى الثاني يكون معناها المثبتة.
واما المجاز: فهو مفعل من الجواز الذي هو التعدي، كما يقال: جزت هذا الموضع أي جاوزته وتعديته أو من الجواز الذي هو قسيم الوجوب والامتناع، وهو راجع إلى الأول لان الذي لا يكون ولا ممتنعا يكون مترددا بين الوجود والعدم فكأنه ينتقل من هذا إلى هذا.
ارشاد الفحول ٢١.
(٢) عقد الجصاص هذا الباب للرد على من نفى اشتمال اللغة على الأسماء المجازية فنفاه الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائيني ومن تابعه وأثبته الباقون قال الآمدي في الاحكام وهو الحق - ١ / ٣٣ وقد تناول ابن تيمية هذا الموضوع بما لم يتناوله أحد بمثل أحد بمثل توسعه وهو بمثل جه النافين اشتمال اللغة على المجاز، ورد معنفا على المخالفين له كالآمدي وغيره. وقال: أن أول من جرد الكلام في أصول الفقه هو الشافعي وهو لم يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز بل لا يعرف من كلامه مع كثرة استدلاله وتوسعه ومعرفته الأدلة الشرعية انه سمى شيئا منه مجازا ولا ذكر في شئ من كتبه ذلك لافى الرسالة ولا في الام ولا في غيرها.
وحينئذ فمن اعتقد ان المجتهدين المشهورين وغيرهم من أئمة الاسلام وعلماء السلف قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز كما فعله طائفة من المتأخرين كان ذلك من جهله وقلة معرفته بكلام أئمة الدين وسلف المسلمين كما قد تطن طائفة أخرى ان هذا مما اخذ من الكلام العربي توقيفا وانهم قالوا: هذا حقيقة وهذا مجاز كما ظن ذلك طائفة من المتكلمين في أصوب الفقه وكان هذ من جهلهم بكلام العرب، وكما يظن بعضهم ان ما يوجد في كلام بعض المتأخرين كفخر الدين الرازي والآمدي وابن الحاجب، هو مذهب الأئمة المشهورين الموافق لطريق أئمتهم، فهذا أيضا من جهله وقلة علمه.
وان قال الناقل عن كثير من الأصوليين مرائي بذلك أكثر المصنفين في أصول الفقه من أهل الكلام والرأي والمعتزلة والأشعرية وأصحاب الأئمة الأربعة، فان أكثر هؤلاء قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز.
قيل له: لا ريب ان هذا التقسيم موجود في كتب المعتزلة ومن اخذ عنها وشابههم وأكثر هؤلاء ذكروا هذا التقسيم، واما من لم يكن كذلك فليس الامر في حقه كذلك ثم يقال: ليس في هؤلاء إمام من أئمة المسلمين الذين اشتغلوا بتلقي الاحكام من أدلة الشرع ولهذا لا يذكر أحد من هؤلاء في الكتب التي يحكى فيها أقوال المجتهدين ممن صنف كتابا وذكر يه اختلاف المجتهدين المشتغلين بتلقي الاحكام من عن الأدلة الشرعية، وهم أكمل الناس معرفة بأصوب الفقه وأحق الناس بالمعنى الممدوح من اسم الأصول فليس من هؤلاء من قسم الكلام إلى الحقيقة والمجاز، والذين قسموا هذا التقسيم ليس فيهم امام في فن من فنون الاسلام لا التفسير ولا الحديث ولا الفقه ولا اللغة ولا النحو أئمة النحاة أهل اللغة كالخليل، وسيبويه والكسائي والفراء وأمثالهم وأبى عمرو بن العلاء وأبى زيد الأنصاري والأصمعي وابن عمرو الشيباني وغيرهم لم يقسموا تقسيم هؤلاء وكذلك الظاهرية والرافضة ثم ساق ابن تيمية أدلة الفريقين وردوده.
الترجيح: والذي نرجحه ان اللغة تشتمل على المجاز وهذا عند جمهور أهل العلم. وان تقسيم اللفظ إلى حقيقي ومجازي الغبار عليه وشواهده من اللغة كثيرة فإنه قد ثبت اطلاق أهل اللغة اسم الأسد على الانسان الشجاع، والحمار على الانسان البليد، وقولهم ظهر الطريق ومتنها وفالن على جناح السفر، وشابت الليل، وقامت الحرب على ساق وكبد السماء إلى غير ذلك. واطلاق هذه الأسماء لغة لا ينكر الا عن عناد، وعند ذلك اما ان يقال ان هذه السماء حقيقة في هذه الصورة أو مجازية لاستحالة خلو الأسماء اللغوية عنهما وما سوى الوضع الأول لا جائز ان يقال بكونها حقيقة فيها لأنها حقيق فيما سواها بالاتفاق فان لفظ لأسد حقيقة في السبع والحمار في البهيمة والظهر والمتن والساق والكبد في الأعضاء المخصوصة بالحيوان وعند ذلك فلو كانت هذه الأسماء حقيقية فيما ذكر من الصور لكان اللفظ مشتركا، ولو كان مشتركا لما سبق إلى الفهم عند اطلاق هذه الألفاظ البعض دون البعض ضرورة التساوي في الدلالة الحقيقية، ولا شك ان السابق إلى الفهم من اطلاق لفظ الأسد انما هو السبع ومن اطلاق لفظ الحمار انما هو البهيمة وكذلك في باقي الصور.
وقال ابن جنى أكثر أهل اللغة مجاز وقد أفاض الشوكاني في الرد على من نفى اشتمال اللغة على المجاز، فراجعه في إرشاد الفحول ٢١ وفى أدلة الجصاص القادمة زيادة وغناء.
ووقوع هذا في القران والسنة كثير لا ينكره الا مباهت.
وقول ابن تيمية ان الشافعي لم يقسم هذا التقسيم فهذا حق فانى لم أعثر على هذا فيما تحت يدي من كتب للشافعي نفسه الا اننا نقول انه لم يرد عن الشافعي ما يرد ذلك بل في كلامه ما يدل على اقراره المجاز وذلك كثير في خلافه مع غيره كخلافه في معنى القرء وخلافه في المشترك وهل يحوز ان تجتمع الحقيقة والمجاز وقد أدلى الشافعي برأيه في ذلك فلا نرى مندوحة لم ن تشبث بان الأفعى أو الأئمة لم يقسموا هذا التقسيم.
اضطراب القول عند الحنابلة: قال مجد الدين عبد الحليم بن تيمية: في القران مجاز نص عليه بما خرجه في متشابه القران في قوله (انا) (نعلم) و (منتقمون) هذا من مجاز اللغة يقول الرجل: انا سنجري عليك رزقك، انا سنفعل بك خيرا.
(وهنا قال شيخ الاسلام تقي الدين بن تيمية قد يكون مقصوده يجوز في اللغة).
وبه قالت الجماعة ومنع منه بعض أصحابنا وبعض أهل الظاهر وبعض الشيعة.
والحاكي لهذا الوجه عن بعض أصحابنا أبو الحسن التميمي، قال ابن برهان هو أحد قول الإمامية من الشيعة وأهل الظاهر.
وقال شهاب الدين عبد الحليم بن تيمية: وحكى القاضي أبو يعلى عن أبي الفضل بن أبي الحسن التميمي انه قال في كتابه في أصول الفقه: والقرآن ليس فيه مجاز عند أصحابنا وانه ذكر عن الخرزي وابن حامد ما يؤيد ذلك وكذلك ابن حامد قال في أصول الدين: ليس في القرآن مجاز.
وقال شيخ الاسلام تقى الدين بن تيمية: قال ابن أبي موسى: والمكنى مثل قوله (واسال القرية) يريد أهلها (وكم قصمنا من قرية) أي أهلها قال: ومن أصحابنا من منع ابن يكون في القران مكنى وحمل كل لفظ وارد في القران عل الحقيقة والأول أمكن لان قوله تعالى (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق، قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) يقتضى ظاهر هذا ان يكون الخطاب من الله للكفار حقيقة، قال:
ولا اعلم خلافا بين اصحبنا ان الله لا يكلم الكفار ولا يحاسبهم فعلم بذلك ان المراد بالايجة غير ظاهرها.
قلت: الحجة ضعيفة فان القاضي حكى الخلاف بين أصحابنا في محاسبة الكفار والمحاسبة نوعان.
قال القاضي: رأيت في كتاب الصول الدين منك كتب أبى لافضل التميمي قال: والقران ليس فيه مجاز عند أصحابنا.
واستدل بان المجاز لا حقيقة له، ثم قال: فاما قوله (واسأل القرية.. والعير) فيجوز ان تلكم الجمادات الأنبياء.
مثل القرية والعير سواء.
قال القاضي: وذكر أبو بكر في تفسيره اختلاف الناس في قوله " واشربوا في قلوبهم العجل ". فذكر ما ذكره أحمد عن قتادة حب العجل، وعن السدي نفس العجل.
قال أبو بكر: وأولى التأويلين قول من قال " واشربوا في قلوبهم حب العجل " لان الماء لا يقال اشرب في قلبه، وانما يقال ذلك في حب الشئ كما قال " واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها " قال: فقد صرح أبو بكر بأن هناك مضمرا محوذنا وبهذا يتضح اضطراب النقول عند آل تيمية بما لا يحتاج إلى توضيح.
راجع في هذا الموضوع المراجع التالية: الفتاوي لابن تيمية ٢٠ / ٤٠٠ - ٤٩٩، ٧ / ٨٧ - ٩٧ و ١٢ / ٢٧٧ والمسودة ١٦١ وممن اعتبر التقسيم انظر الاحكام للآمدي ١ / ٣٣ وارشاد الفحول ٢١ والابهاج ١ / ١٧٦ والمستصفى 1 / 105 و 2 / 341 وفتح الغفار 1 / 177 والتلويح 1 / 288 وتيسير التحرير 2 / 176 وشرح العضد على مختصر المنتهى 1 / 138 والروضة 90 وكشف الاسرار للبزدوي 1 / 61 و 2 / 45 ومنافع الدقائق 82 - 84 وكشف الاسرار للنسفي 1 / 145 والمنار وشروحه 369 وحاشية العطار على جمع الجوامع 1 / 393 وطلعة الشمس 1 / 193.