اللفظ على الظاهر، فلا أقل من الاحتمال، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن هذا القرآن يحتمل أن يكون كلام جبريل لا كلام الله، وبتقدير أن يكون كلام جبريل يخرج عن كونه معجزا، لاحتمال أن جبريل ألقاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم على سبيل الإضلال، ولا يمكن أن يجاب عنه بأن جبريل معصوم لا يفعل الإضلال، لأن العلم بعصمة جبريل، مستفاد من صدق النبي، وصدق النبي مفرع على كون القرآن معجزا، وكون القرآن معجزا يتفرع على عصمة جبريل، فيلزم الدور وهو محال والجواب: الذين قالوا: بأن القرآن إنما كان معجزا للصرفة، إنما ذهبوا إلى ذلك المذهب فرارا من هذا السؤال، لأن الإعجاز على ذلك القول ليس في الفصاحة، بل في سلب تلك العلوم والدواعي عن القلوب، وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى.
القول الثاني: أن هذا الذي أخبركم به محمد من أمر الساعة على ما ذكر في هذه السورة ليس بكهانة ولا ظن ولا افتعال، إنما هو قول جبريل أتاه به وحيا من عند الله تعالى، واعلم أنه تعالى وصف جبريل ههنا بصفات ست أولها: أنه رسول ولا شك أنه رسول الله إلى الأنبياء فهو رسول وجميع الأنبياء أمته، وهو المراد من قوله: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) * (النحل: 2) وقال: * (نزل به الروح الأمين * على قلبك) * (الشعراء: 194, 193) وثانيها: أنه كريم، ومن كرمه أنه يعطي أفضل العطايا، وهو المعرفة والهداية والإرشاد.
* (ذى قوة عند ذى العرش مكين) *.
وثالثها: قوله: * (ذي قوة) * ثم منهم من حمله على الشدة، روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لجبريل " ذكر الله قوتك، فماذا بلغت؟ قال رفعت قريات قوم لوط الأربع على قوادم جناحي حتى إذا سمع أهل السماء نباح الكلاب وأصوات الدجاج قلبتها " وذكر مقاتل أن شيطانا يقال له الأبيض صاحب الأنبياء قصد أن يفتن النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه جبريل دفعة رقيقة وقع بها من مكة إلى أقصى الهند، ومنهم من حمله على القوة في أداء طاعة الله وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف، وعلى القوة في معرفة الله وفي مطالعة جلال الله.
ورابعها: قوله تعالى: * (عند ذي العرش مكين) * وهذه العندية ليست عندية المكان، مثل قوله: * (ومن عنده لا يستكبرون) * وليست عندية الجهة بدليل قوله " أنا عند المنكسرة قلوبهم " بل عندية الإكرام والتشريف والتعظيم. وأما * (مكين) * فقال الكسائي: يقال قد مكن فلان عند فلان بضم الكاف مكنا ومكانة، فعلى هذا المكين هو ذو الجاه الذي يعطي ما يسأل.
* (مطاع ثم أمين) *.
وخامسها: قوله تعالى: * (مطاع ثم) * اعلم أن قوله: * (ثم) * إشارة إلى الظرف المذكور أعني * (عند ذي العرش) * (التكوير: 20) والمعنى أنه عند الله مطاع في ملائكته المقربين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه، وقرئ * (ثم) * تعظيما للأمانة وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة.