المسألة الثالثة: قدم الأشرف في مثلين وهو الظل والحرور، وأخره في مثلين وهو البصر والنور، وفي مثل هذا يقول المفسرون إنه لتواخي أواخر الآي، وهو ضعيف لأن تواخي الأواخر راجع إلى السجع، ومعجزة القرآن في المعنى لا في مجرد اللفظ، فالشاعر يقدم ويؤخر للسجع فيكون اللفظ حاملا له على تغيير المعنى، وأما القرآن فحكمة بالغة والمعنى فيه صحيح واللفظ فصيح فلا يقدم ولا يؤخر اللفظ بلا معنى، فنقول الكفار قبل النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في ضلالة فكانوا كالعمى وطريقهم كالظلمة ثم لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وبين الحق، واهتدى به منهم قوم فصاروا بصيرين وطريقتهم كالنور فقال وما يستوي من كان قبل البعث على الكفر ومن اهتدى بعده إلى الإيمان، فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد صلى الله عليه وسلم، والكافر قبل المؤمن قدم المقدم، ثم لما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لقوله في الإلهيات سبقت رحمتي غضبي، ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق من جميع الوجوه فقال: * (وما يستوي الأحياء) * أي المؤمنون الذين آمنوا بما أنزل الله والأموات الذين تليت عليهم الآيات البينات، ولم ينتفعوا بها وهؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافرين المعاندين، وقدم الأعمى على البصير لوجود الكفار الضالين قبل البعثة على المؤمنين المهتدين بعدها.
المسألة الرابعة: فإن قلت قابل الأعمى بالبصير بلفظ المفرد وكذلك الظل بالحرور وقابل الأحياء بالأموات بلفظ الجمع، وقابل الظلمات بالنور بلفظ الجمع في أحدهما والواحد في الآخر، فهل تعرف فيه حكمة؟ قلت: نعم بفضل الله وهدايته، أما في الأعمى والبصير والظل والحرور، فلأنه قابل الجنس بالجنس، ولم يذكر الأفراد لأن في العميان وأولى الأبصار قد يوجد فرد من أحد الجنسين يساوي فردا من الجنس الآخر كالبصير الغريب في موضع والأعمى الذي هو تربية ذلك المكان، وقد يقدر الأعمى على الوصول إلى مقصد الغريب في موضع والأعمى الذي هو تربية ذلك المكان، وقد يقدر الأعمى على الوصول إلى مقصد ولا يقدر البصير عليه، أو يكون الأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البليد البصير، فالتفاوت بينهما في الجنسين مقطوع به فإن جنس البصير خير من جنس الأعمى، وأما الأحياء والأموات فالتفاوت بينهما أكثر، إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حيا من الأحياء، فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس بالجنس أو قابلت الفرد بالفرد، وأما الظلمات والنور فالحق واحد وهو التوحيد والباطل كثير وهو طرق الإشراك على ما بينا أن بعضهم يعبدون الكواكب وبعضهم النار وبعضهم الأصنام التي هي على صورة الملائكة ، وإلى غير ذلك والتفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد وبين هذا الواحد بين، فقال الظلمات كلها إذا اعتبرتها لا تجد فيها ما يساوي النور، وقد ذكرنا في تفسير قوله: * (وجعل الظلمات والنور) * السبب في توحيد النور وجمع الظلمات، ومن جملة ذلك أن النور لا يكون إلا بوجود منور ومحل قابل للاستنارة وعدم الحائل بين النور والمستنير. مثاله الشمس