بلادتهم وجهلهم، فلا جرم لم ينتفعوا بهذا النوع من البيان.
الطريق الثاني: أن يثبت الرسول صلى الله عليه وسلم جهة رسالته بالمعجزات ثم يقول لما ثبت بالمعجز كوني رسولا صادقا من عند الله فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حق، ثم إن أولئك المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضا لأنهم إذا رأوا معجزة قاهرة وآية باهرة حملوها على كونها سحرا وسخروا بها واستهزؤا منها وهذا هو الراد من قوله: وإذا رأوا آية يستسخرون) * فظهر بالبيان الذي ذكرناه أن هذه الألفاظ الثلاثة منبهة على هذه الفوائد الجليلة.
واعلم أن أكثر الناس لم يقفوا على هذه الدقائق، فقالوا إنه تعالى قال: * (بل عجبت ويسخرون) * (الصافات: 12). ثم قال: * (وإذا رأوا آية يستسخرون) * فوجب أن يكون المراد من قوله: * (يستسخرون) * غير ما تقدم ذكه من قوله: * (ويسخرون) * فقال هذا القائل المراد من قوله: * (ويسخرون) * إقدامهم على السخرية والمراد من قوله: * (يستسخرون) * طلب كل واحد منهم من صاحبه أن يقدم على السخرية وهذا التكليف إنما لزمهم لعدم وقوفهم على الفوائد التي ذكرناها والله أعلم والرابع: من الأمور التي حكاها الله تعالى عنهم أنهم قالوا: * (إن هذا إلا سحر مبين) * يعني أنهم إذا رأوا آية ومعجزة سخروا منها، والسبب في تلك السخرية اعتقادهم أنها من باب السحر وقوله: * (مبين) * معناه أن كونه سحرا أمر بين لا شبهة لأحد فيه، ثم بين تعالى أن السبب الذي يحملهم على الاستهزاء بالقول بالبعث وعلى عدم الالتفات إلى الدلائل الدالة على صحة القول وعلى الاستهزاء بجميع المعجزات هو قولهم إن الذي مات وتفرقت أجزاؤه في جملة العالم فما فيه من الأرضية اختلط بتراب الأرض وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم فهذا الإنسان كيف يعقل عوده بعينه حيا فاهما؟ فهذا الكلام هو الذي يحملهم على تلك الأحوال الثلاثة المتقدمة، ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذه الشبهة قال: قال يا محمد نعم وأنتم داخرون وإنما اكتفى تعالى بهذا القدر من الجواب لأنه ذكر في الآية المتقدمة بالبرهان اليقيني القطعي أنه أمر ممكن وإذا ثبت الجواز القطعي فلا سبيل إلى القطع بالوقوع إلا بإخبار المخبر الصادق، فلما قامت المعجزات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم كان واجب الصدق فكان مجرد قوله: * (قل نعم) * دليلا قاطعا على الوقوع. ومن تأمل في هذه الآيات علم أنها وردت على أحسن وجوه الترتيب، وذلك لأنه بين الإمكان بالدليل العقلي وبين وقوع ذلك الممكن بالدليل السمعي، ومن المعلوم أن الزيادة على هذا البيان كالأمر الممتنع.
أما قوله: * (أو آباؤنا) * فالمعنى أو تبعث آباؤنا وهذه ألف الاستفهام دخلت على حرف العطف وقرأ نافع وابن عامر ههنا، وفي سورة الواقعة ساكنة الواو وذكرنا الكلام في هذا في سورة الأعراف عن قوله: * (أو أمن أهل القرى) * (الأعراف: 98).
أما قوله تعالى: * (قل نعم) * فنقول قرأ الكسائي وحده (نعم) بكسر العين.
أما قوله تعالى: * (وأنتم داخلون) * أي صاغرون، قال أبو عبيد الدخور أشد الصغار، وذكرنا تفسير هذه اللفظة عند قوله: * (سجدا لله وهم داخرون) * (النحل: 48).