عند عدم الشرط وعلى ما ذكروه لا يبقى للقلتين فائدة لأنا نقول: لا شك أن هذا الخبر بتقدير الصحة يقتضي تخصيص عموم قوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * وعموم قوله: * (ولكن يريد ليطهركم) * (المائدة: 6) وعموم قوله: * (فاغسلوا وجوهكم) * (المائدة: 6) وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء " وهذا المتخصص لا بد وأن يكون بعيدا عن الاحتمال والاشتباه وقلال هجر مجهولة وقول ابن جريج القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا ليس بحجة، لأن القلة كما أنها مجهولة فكذا القربة مجهولة فإنها قد تكون كبيرة، وقد تكون صغيرة، ولأن الروايات أيضا مختلفة فتارة قال " إذا بلغ الماء قلتين "، وتارة " أربعين قلة "، وتارة كرين فإذا تدافعت وتعارضت لم يجز تخصيص عموم الكتاب والسنة الظاهرة البعيدة عن الاحتمال بمثل هذا الخبر. هذا تمام الكلام في نصرة قول مالك، واحتج من حكم بنجاسة الماء الذي تقع النجاسة فيه بوجوه: أولها: قوله تعالى: * (ويحرم عليهم الخبائث) * (الأعراف: 157) والنجاسات من الخبائث، وقال تعالى: * (إنما حرم عليكم الميتة والدم) * (النحل: 115)، وقال في الخمر: * (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) * (المائدة: 90) ومر عليه السلام بقبرين فقال: " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير إن أحدهما كان لا يستبرئ من البول والآخر كان يمشي بالنميمة " فحرم الله هذه الأشياء تحريما مطلقا، ولم يفرق بين حال انفرادها واختلاطها بالماء، فوجب تحريم استعمال كل ما يبقى فيه جزء من النجاسة أكثر ما في الباب أن الدلائل الدالة على كون الماء مطهرا تقتضي جواز الطهارة به، ولكن تلك الدلائل مبيحة والدلائل التي ذكرناها حاظرة والمبيح والحاظر إذا اجتمعا فالغلبة للحاظر، ألا ترى أن الجارية بين رجلين لو كان لأحدهما منها مائة جزء وللآخر جزء واحد، أن جهة الحظر فيها أولى من جهة الإباحة، وأنه غير جائز لواحد منهما وطؤها فكذا ههنا وثانيها: قوله عليه السلام: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من الجنابة " ذكره على الإطلاق من غير فرق بين القليل والكثير وثالثها: قوله عليه السلام: " إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها الإناء فإنه لا يدري أين باتت يده " فأمر بغسل اليد احتياطا من نجاسة قد أصابته من موضع الاستنجاء، ومعلوم أن مثلها إذا أدخلت الماء لم تغيره ولولا أنها تفسده ما كان للأمر بالاحتياط منها معنى ورابعها: قوله عليه السلام: " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا " يدل بمفهومه على أنه إذا لم يبلغ قلتين وجب أن يحمل الخبث. أجاب مالك عن الوجه الأول فقال لا نزاع في أنه يحرم استعمال النجاسة ولكن الجزء القليل من النجاسة المائعة إذا وقع في الماء لم يظهر فيه لونه ولا طعمه ولا رائحته، فلم قلتم إن تلك النجاسة بقيت، ولم لا يجوز أن يقال إنها انقلبت عن صفتها؟ وتقريره ما قدمناه. وأما قوله عليه السلام: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم " فلم قلتم إن هذا النهي ليس إلا لما ذكرتموه، بل لعل النهي إنما كان لأنه ربما شربه إنسان وذلك مما ينفر طبعه عنه، وليس الكلام في نفرة الطبع، وأما قوله: " إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثا " فقد أجمعنا على أن هذا الأمر استحباب، فالمرتب عليه كيف يكون أمر إيجاب
(٩٧)