تعالى فهو دلالة الأحكام أجمع، وإذا ثبت هذا صارت آيات القرآن كافية في كل الأصول والفروع أجمع، ولما ذكر الله تعالى أنه بين الأمور قل بعده: * (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) * منبها بذلك على أن الكتاب وإن بلغ في البيان كل غاية فغير مدخل لهم في الإيمان لما أنه سبق حكم الله بخلافه، فلا تبالغ في الحزن والأسف على ذلك لأنك إن بالغت فيه كنت بمنزلة من يقتل نفسه ثم لا ينتفع بذلك أصلا فصبره وعزاه وعرفه أن غمه وحزنه لا نفع فيه كما أن وجود الكتاب على بيانه ووضوحه لا نفع لهم فيه، ثم بين تعالى أنه قادر على أن ينزل آية يذلون عندها ويخضعون، فإن قيل: كيف صح مجيء * (خاضعين) * خبرا عن الأعناق؟ قلنا أصل الكلام: فظلوا لها خاضعين، فذكرت الأعناق لبيان موضع الخضوع، ثم ترك الكلام على أصله، ولما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء، قيل * (خاضعين) * كقوله: * (لي ساجدين) * (يوسف: 4)، وقيل أعناق الناس رؤساؤهم ومقدموهم شبهوا بالأعناق كما يقال هم الرؤوس والصدور، وقيل هم جماعات الناس، يقال جاءنا عنق من الناس لفوج منهم.
المسألة الرابعة: نظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الكهف: * (فلعلك باخع نفسك) * وقوله: * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) * (فاطر: 8).
قوله تعالى * (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين * فقد كذبوا فسيأتيهم أنباؤا ما كانوا به يستهزءون * أولم يروا إلى الارض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم * إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *.
المسألة الأولى: قوله: * (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين) * من تمام قوله: * (إن نشأ ننزل عليهم) * (الشعراء: 4) فنبه تعالى على أنه مع قدرته على أن يجعلهم مؤمنين بالإلجاء رحيم بهم من حيث يأتيهم حالا بعد حال بالقرآن، وهو الذكر ويكرره عليهم وهم مع ذلك على حد واحد في الإعراض والتكذيب والاستهزاء، ثم عند ذلك زجر وتوعد لأن المرء إذا استمر على كفره فليس ينفع فيه إلا الزجر الشديد فلذلك قال: * (فقد كذبوا) * أي بلغوا النهاية