محمد صلى الله عليه وسلم صادقا بفصاحة القرآن وإخباره عن الغيب، ولا يمكن إثبات كون الفصاحة والإخبار عن الغيب معجزا إلا إذا ثبت كون الشياطين ممنوعين عن ذلك، لزم الدور وهو باطل وجوابه: لا نسلم أن العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يستفاد إلا من قول النبي، وذلك لأنا نعلم بالضرورة أن الاهتمام بشأن الصديق أقوى من الاهتمام بشأن العدو، ونعلم بالضرورة أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يلعن الشياطين ويأمر الناس بلعنهم، فلو كان هذا الغيب إنما حصل من إلقاء الشياطين، لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم مثل هذا العلم، فكان يجب أن يكون اقتدار الكفار على مثله أولى، فلما لم يكن كذلك علمنا أن الشياطين ممنوعون عن ذلك، وأنهم معزولون عن تعرف الغيوب، ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الجواب ابتدأ بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: * (فلا تدع مع الله إلها آخر) * وذلك في الحقيقة خطاب لغيره، لأن من شأن الحكيم إذا أراد أن يؤكد خطاب الغير أن يوجهه إلى الرؤساء في الظاهر، وأن كان المقصود بذلك هم الأتباع، ولأنه تعالى أراد أن يتبعه ما يليق بذلك، فلهذه العلة أفرده بالمخاطبة.
قوله تعالى * (وأنذر عشيرتك الاقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إنى برىء مما تعملون * وتوكل على العزيز الرحيم * الذى يراك حين تقوم * وتقلبك فى الساجدين * إنه هو السميع العليم) *.
اعلم أنه سبحانه لما بالغ في تسلية رسوله أولا، ثم أقام الحجة على نبوته، ثانيا ثم أورد سؤال المنكرين، وأجاب عنه ثالثا، أمره بعد ذلك بما يتعلق بباب التبليغ والرسالة وهو ههنا أمور ثلاثة: الأول: قوله: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * وذلك لأنه تعالى بدأ بالرسول فتوعده إن دعا مع الله إلها آخر، ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب، وذلك لأنه إذا تشدد على نفسه أولا، ثم بالأقرب فالأقرب ثانيا، لم يكن لأحد فيه طعن البتة وكان قوله أنفع وكلامه أنجع، وروي " أنه لما نزلت هذه الآية صعد الصفا فنادى الأقرب فالأقرب وقال: يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، يا عباس عم محمد، يا صفية عمة محمد؛ إني لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من المال