مجرى المغالبة، وإذا ثبت هذا وجب تأويل صيغة الأمر وفيه وجوه: أحدها: ذلك الأمر كان مشروطا والتقدير ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين كما في قوله: * (فأتوا بسورة من مثله... إن كنتم صادقين) * (البقرة: 23) وثانيها: لما تعين ذلك طريقا إلى كشف الشبهة صار جائزا وثالثها: أن هذا ليس بأمر بل هو تهديد، أي إن فعلتم ذلك أتينا بما تبطله، كقول القائل لئن رميتني لأفعلن ولأصنعن ثم يفوق له السهم فيقول له ارم فيكون ذلك منه تهديدا ورابعها: ما ذكرنا أنهم لما تواضعوا له وقدموه على أنفسهم فهو قدمهم على نفسه على رجاء أن يصير ذلك التواضع سببا لقبول الحق ولقد حصل ببركة ذلك التواضع ذلك المطلوب، وهذا تنبيه على أن اللائق بالمسلم في كل الأحوال التواضع، لأن مثل موسى عليه السلام لما لم يترك التواضع مع أولئك السحرة، فبأن يفعل الواحد منا أولى.
أما قوله تعالى: * (فألقوا حبالهم وعصيهم) * فروي عن ابن عباس أنهم لما ألقوا حبالهم وعصيهم وقد كانت الحبال مطلية بالزئبق والعصي مجوفة مملوءة من الزئبق فلما حميت اشتدت حركتها فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض فهاب موسى عليه السلام ذلك، فقيل له ألق ما في يمينك فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ثم فتحت فاها فابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم حتى أكلت الكل ثم أخد موسى عصاه، فإذا هي كما كانت فلما رأت السحرة ذلك قالت لفرعون كنا نساحر الناس فإذا غلبناهم بقيت الحبال والعصي، وكذلك إن غلبونا ولكن هذا حق فسجدوا وآمنوا برب العالمين.
واعلم أن في الآثار اختلافا فمنهم من كثر الحبال والعصي، ومنهم من توسط والله أعلم بعدد ذلك، والذي يدل القرآن عليه أنها كثيرة من حيث حشروا من كل بلد، ولأن الأمر بلغ عند فرعون وقومه في العظم مبلغا يبعد أن يدخر عنه ما يمكن من جمع السحرة.
وأما قوله: * (وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون) * فالمراد أنهم أظهروا ما يجري مجرى القطع على أنهم يغلبون، وكل ذلك لما ظهر كان أقوى لأمر موسى عليه السلام.
أما قوله: * (فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون) * فالمراد من قوله: * (ما يأفكون) * ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم وكيدهم (ويزورونه) فيخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى، (بالتمويه على الناظرين أو إفكهم) وسمى تلك الأشياء إفكا مبالغة.
أما قوله: * (فألقى السحرة ساجدين) * فالمراد خروا سجدا لأنهم كانوا في الطبقة العالية من علم السحر، فلا جرم كانوا عالمين بمنتهى السحر، فلما رأوا ذلك وشاهدوه خارجا عن حد السحر علموا أنه ليس بسحر، وما كان ذلك إلا ببركة تحقيقهم في علم السحر، ثم إنهم عند ذلك لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحا، فإن قيل فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟ جوابه: هو الله تعالى بما (حصل في قلوبهم من الدواعي الجازمة الخالية عن المعارضات